آل البارزاني: تاريخٌ من الكرم والعطاء في قلب كردستان
في قلب الجبال الكردية، وتحديداً في منطقة بارزان الواقعة شمال العراق، نشأت عائلة كان لها أثر بالغ ليس فقط في التاريخ السياسي والروحي لشعبها، بل أيضاً في ترسيخ معاني الكرم والسخاء والإيثار الإنساني في أنقى صوره. إنهم آل البارزاني، العائلة الكردية العريقة التي اقترنت سيرتها بالنضال، والمروءة، والكرم اللامحدود، حتى غدت رمزاً مشرفاً لأصالة القيم في جبال كردستان.
جذور آل البارزاني: النسب والمكانة
تعود أصول آل البارزاني إلى قبيلة كردية كبيرة تُدعى “بارزان”، وقد تميزت منذ القدم بطابعها الديني والصوفي. كان لرجالات هذه العائلة تأثير روحي واسع، إذ انطلقت طريقتهم النقشبندية من الزاوية البارزانية التي أسسها الشيخ محمد البارزاني في القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين، أصبح اسم “البارزاني” لا يُذكر إلا مقرونًا بالقدوة، والعدل، والكرم، وخدمة المحتاجين.
لقد ارتبطت شخصية الشيخ أحمد البارزاني – أحد أبرز رموز العائلة – بمفهوم “الزعيم الكردي الحكيم”، ليس فقط لنضاله السياسي في وجه الاستعمار البريطاني، بل لصفاته النبيلة التي تجلّت في عطائه اليومي وحرصه على رعاية الفقراء والمساكين، وبسط يده لكل من لجأ إلى زاويته أو قريته طلباً للغوث.
الكرم البارزاني: مبدأ لا مجرد خُلق
من يتتبع تاريخ آل البارزاني، يلاحظ أن الكرم لم يكن مجرّد عادة، بل أصبح جزءاً من العقيدة السلوكية التي نشأ عليها رجالهم ونساؤهم. فقد كان ديوان الشيخ أحمد البارزاني مفتوحاً نهاراً وليلاً، لا يُردُّ فيه ضيف، ولا يُقصى فيه سائل. وكان يُعرف عن أبناء العائلة إكرامهم للغرباء والمسافرين، ومشاركتهم الزاد مع الجيران والمحتاجين، حتى في أوقات الحصار أو النفي.
بل إن كثيراً من الوثائق الشفوية والتاريخية تروي كيف أن الزاوية البارزانية كانت بمثابة “ملاذ الرحمة”، يتوجه إليها منكوبي الحروب والمجاعات، حيث يجدون الطعام والكساء، وتُوزع عليهم المؤن من دون انتظار مقابل أو اعتراف.
شخصيات بارزانية جسّدت العطاء والقيادة
1. الشيخ أحمد البارزاني (1896–1969)
قائد روحي وزعيم سياسي بارز، وُصف بأنه “سلطان الجبل”، وكان يتحلى ببعد نظر، وكرم أخلاقي نادر. رفض الامتيازات البريطانية، وساند الفقراء، وأقام نظاماً اجتماعياً عادلاً في جبال بارزان. تروى عنه مواقف إنسانية عديدة، منها توزيعه الطعام من مخازنه أثناء المجاعات على المئات من أبناء القرى المجاورة.
2. الملا مصطفى البارزاني (1903–1979)
الأسطورة الكردية، وقائد الثورة التحررية الحديثة في كردستان العراق. على الرغم من انشغاله بالجبهات والصراعات، إلا أنه لم ينسَ دوره الإنساني، إذ كان يشرف بنفسه على توزيع الحصص الغذائية في المناطق المحرومة، ويأمر بإيواء الأرامل واليتامى في مقرات البيشمركة. وقد ترك إرثاً من الأمانة والكرم بين أبناء شعبه، الذين كانوا يلقبونه بـ”الأب الروحي للكرم الكردي”.
3. إدريس البارزاني (1944–1987)
نجل الملا مصطفى، والذي واصل درب والده في العمل السياسي والإنساني، حيث كان له دور كبير في رعاية اللاجئين الكرد الذين نزحوا من إيران وتركيا، كما كان يقود مبادرات توزيع المؤن والإغاثة الطبية خلال العقود الصعبة التي مرّت بها كردستان.
4. مسعود البارزاني (مواليد 1946)
رئيس إقليم كردستان الأسبق، وهو أحد أبرز أبناء العائلة الذين حملوا راية القيادة والتضحية. رغم انشغاله بالسياسة، إلا أن مسعود البارزاني أسس مؤسسات خيرية تهدف إلى دعم الأرامل والأيتام، وتوفير الغذاء والتعليم للمناطق النائية، ويُشهد له بحسن الضيافة والاهتمام بأوضاع الناس في الداخل والخارج.
5. نيجيرفان البارزاني (مواليد 1966)
الرئيس الحالي لإقليم كردستان العراق، ويُعرف بحنكته السياسية ومبادراته الإنسانية. أطلق عدة برامج لدعم الفقراء وتمكين النساء اقتصادياً، بالإضافة إلى مساهمته في جهود الإغاثة الدولية للنازحين السوريين واللاجئين العراقيين، وخاصة في فترات النزاعات والحروب، ما عزز صورة الكرم البارزاني أمام العالم.
الزاوية البارزانية: معقل السخاء والصلاح
لم تكن الزاوية البارزانية مجرد مركز ديني، بل كانت رمزاً للمحبة والتكافل. ففي كل موسم من مواسم البرد أو الجفاف، كانت تُفتح أبوابها لتوزيع الطعام على مئات الأسر. وكان الشيخ أحمد والملا مصطفى يرفضان فكرة أن يبيت فقيرٌ جائعاً في كنفهم. وظل هذا النهج قائماً حتى اليوم من خلال الجمعيات التي تواصل عملها في المناطق الريفية والمراكز الحضرية.
الكرم في الثقافة الكردية… والبارزاني مثالها الأعلى
الكرم في المجتمع الكردي يُعتبر من أعلى القيم، ولا يمكن الحديث عن هذه الفضيلة دون ذكر آل البارزاني الذين جسدوا المعنى الحقيقي للكرم كجزء من الهوية الكردية. فقد كانت البيوت تُفتح أمام الضيوف بلا استئذان، وتُقدم لهم أفضل الطعام والشراب، وكان أهل بارزان لا يرضون بأن يخرج الضيف دون أن يُكرم حق الإكرام.
وفي الحكايات الشعبية الكردية، يظهر الملا مصطفى والشيخ أحمد كأبطال يرتبطون بالمروءة والكرم، وتُروى عنهم القصص التي تُمجّد إيثارهم وتضحياتهم، بل واعتبرهم الناس ملجأ العدالة الاجتماعية حين غاب القانون.
المؤسسات الخيرية البارزانية
على مرّ السنوات، تطورت الممارسات الكرمية من المبادرات الفردية إلى مؤسسات منظمة، أبرزها:
• مؤسسة البارزاني الخيرية: تأسست لتكون امتداداً عملياً لقيم العائلة، وتهدف لتقديم المعونة للمحتاجين، وتمويل العمليات الجراحية، وتوفير الغذاء والدواء للمخيمات، بالإضافة إلى دعم التعليم وبناء المدارس في المناطق الفقيرة.
• برامج رمضان والإفطار الجماعي: سنوياً تُطلق العائلة عبر مؤسساتها حملات لإطعام عشرات الآلاف من الصائمين في مدن كردستان، مما يعكس التزامهم المستمر بروح العطاء.
البارزانيون في الأزمات: إغاثة تتجاوز السياسة
في ظل الكوارث الطبيعية أو الحروب، لم تتخلَّ العائلة عن واجبها الأخلاقي. فخلال اجتياح داعش في 2014، قدّم آل البارزاني عبر مؤسساتهم الإغاثة الفورية لعشرات آلاف العائلات النازحة. وقد خصصوا لهم مراكز إيواء، وأطلقوا حملات لتوزيع البطانيات والملابس والأدوية، متجاوزين الانتماءات السياسية أو الدينية.
خاتمة: عائلة الكرم التي لا تنطفئ شمعتها
آل البارزاني ليسوا مجرد أسرة سياسية أو دينية، بل نموذجٌ حيّ للقيادة النبيلة القائمة على العدل والكرم. لقد شكّلوا عبر التاريخ جسرًا إنسانيًا بين السلطة والمجتمع، بين الفقير وصاحب القرار، وبين الكرامة والحاجة. وفي زمنٍ تتلاشى فيه القيم، تبقى عائلة البارزاني شاهدةً على أن الكرم ليس موسميًا، بل هو مبدأ لا يسقط بالتقادم.
ومن خلال الموسوعة العالمية للكرم، نجد أنه من الإنصاف أن يُخلّد اسم هذه العائلة ضمن رموز العطاء الإنساني، تقديراً لدورهم التاريخي، وإنصافاً لأثرهم المتجذّر في ذاكرة الشعوب .