اعلم أن الجود بذل المال، وأنفعه ما صرف في وجه استحقاقه، وقد ندب الله تعالى إليه في قوله تعالى: ﴿لَن تَنالُوا البر حتى تُنفِقُوا مِمَّا تحبون ﴾ [آل عمران : ۹۲] . قيل : إن الجود والسخاء والإيثار بمعنى واحد. وقيل: من أعطى البعض وأمسك البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود ومن أثر غيره بالحاضر، وبقى هو في مقاساة الضر فهو صاحب إيثار، وأصل السخاء هو السماحة، وقد يكون المعطى بخيلاً إذا صعب عليه البذل، والممسك سخيا
إذا كان لا يستصعب العطاء.
فمن الإيثار ما حكى عن حذيفة العدوى أنه قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لى في القتلى ومعى شيء من الماء، وأنا أقول إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له : أسقيك؟ فأشار إلى أن نعم، فإذا برجل يقول : آه، فأشار إلى ابن عمى أن انطلق إليه واسقه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار إلى أن نعم. فمع آخر يقول : آه، فأشار إلى أن انطلق إليه، فجئته، فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات.
فرجعت إلى ابن عمى فإذا هو قد مات .
ومن عجائب ما ذكر في الإيثار: ما حكاه أبو محمد الأردى قال : لما احترق المسجد بمرو ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه فأحرقوا خاناتهم فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخانات وكتب رقاعًا فيها القطع والجلد والقتل ونثرها عليهم فمن وقع عليه رقعه فعل به ما فيها. فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل فقال : والله ما كنت أبالي لولا أم لى وكان بجنبه بعض الفتيان فقال له : في رقعتى الجلد وليس لى أم فخذ أنت رقعتى وأعطني رقعتك ففعل، فقتل ذلك
الفتى وتخلص هذا الرجل.
وقيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة فجاء زوجها، فقالت له : إنه نزله بنا ضيفان. فجاءنا بناقة فنحرها، وقال: شأنكم. فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها، وقال: شأنكم، فقلنا: ما أكلنا من التي تحرت البارحة إلا القليل، فقال : إني لا أطعم ضيفاني الباثت. فبقينا عنده أياماً، والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة اعتذرى لنا إليه ومضينا، فلما ارتفع النهار إذا برجل يصيح خلفنا قفوا أيها الركب اللئام، أعطيتمونا ثمن قرانا، ثم إنه لحقنا، وقال: خذوها وإلا طعنتكم برمحى هذا،
فأخذناها وانصرفنا .
وقال بعض الحكماء: أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه، وقال رسول الله ﷺ: تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر وفاتح له كلما افتقر. وعن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنه قال: ما سئل رسول الله ﷺ شيئا قط، فقال : لا . وعنه أنه قال : السخى قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وتجاهل سخى أحب إلى الله من عابد بخيل». وقال بعض السلف: منع الموجود سوء ظن بالمعبود. وتلا قوله تعالى : ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) سبا: ٣٩]. وقال الفضيل: ما كانوا يعدون القرض معروفاً. وقال أكثم بن صيفى صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد له متكئاً. وقيل للحسن بن سهل : لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير، فقلب اللفظ واستوفى المعنى . ووجد مكتوباً على حجر : انتهز الفرص عند إمكانها ولا تحمل نفسك هم ما لم يأتك، واعلم أن تقتيرك على نفسك توفير الخزانة غيرك، فكم من جامع لبعل حليلته. وقال على رضى الله تعالى عنه : ما جمعت من المال فوق قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك. وقال النعمان بن المنذر يوماً لجلسائه من أفضل الناس عيشا وأنعمهم بالا وأكرمهم طباعاً، وأجلهم في النفوس قدرًا؟ فسكت القوم، فقام فتى فقال : أبيت اللعن أفضل الناس من عاش الناس فضله. فقال :
صدقت. وكان أسماء بن خارجة يقول: ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة، لأنه إن كان كريماً أصون عرضه أو لتيما أصون عنه عرضي. وكان مورق العجلي يتلطف في إدخال السرور والرفق على إخوانه، فيضع عند أحدهم البدرة، ويقول له: امسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل يقول له : أنت منها في حل. وقال الحسن رضي الله عنه: باع طلحة بن عثمان رضي الله تعالى عنه أرضاً بسبعمائة ألف درهم، فلما جاء المال قال : إن رجلاً يبيت هذا عنده لا يدري ما يطرقه
الغرير بالله تعالى ثم قسمه في المسلمين.
ولما دخل المنكدر على عائشة رضي الله عنها قال لها : يا أم المؤمنين أصابتني فاقة فقالت ما عندى شيء، فلو كان عندي عشرة آلاف درهم لبعثت بها إليك. فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد بن أسيد فأرسلت بها إليه في أثره، فأخذها ودخل بها السوق، فاشترى جارية بألف درهم، فولدت له ثلاثة أولاد، فكانوا عباد المدينة، وهم محمد وأبر كر، وعمر بنو المنكدر. وأكرم العرب في الإسلام طلحة بن عبيد الله رضى الله تعالى عنه، جاء إليه رجل، فاله برحم بينه وبينه، فقال هذا حائطي بمكان كذا وكذا، وقد أعطيت فيه مائة ألف درهم، يراح إلى بالمال العشية، فإن شئت فالمال، وإن شئت فالحائط. وقال زياد بن جرير رأيت طلحة بن عبيد الله فرق مائة ألف في
مجلس وإنه ليخيط إزاره بيده.
وذكر الإمام أبو علي القالي في كتاب الأمالي : (1) أن رجلاً جاء إلى معاوية رضى الله تعالى عنه فقال له : سألتك بالرحم التي بيني وبينك إلا ما قضيت حاجتي، فقال له معاوية : أمن قريش أنت؟ قال: لا، قال: فأي رحم بيني وبينك؟ قال : رحم آدم عليه السلام قال: رحم مجفوة والله لأكونن أول من وصلها، ثم قضى حاجته.
وروي أن الأشعث بن قيس أرسل إلى عدي بن حاتم يستعير مسنه قدوراً كانت لابيه حاتم، فملأها مالاً وبعث بها إليه، وقال: إنا لا نعيرها فارغة. وكان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي من الأجواد، ولم يناول أحداً شيئًا وإنما كان يطرحه في الأرض، فيتناوله الآخذ من الأرض، وكان يقول : الدنيا أقل خطراً من أن ترى من أجلها يد فوق يد أخرى. وقد قال النبي : اليد العليا خير من اليد السفلى. وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم، عن الكرم فقال : هو التبرع بالمعروف قبل السؤال، والرأفة بالسائل مع البذل وقدم رجل من قريش من سفر، فمر على رجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض فقال له: يا هذا أعنا على الدهر، فقال لغلامه : ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب في حجره أربعة آلاف درهم فهم ليقوم، فلم يقدر من الضعف فيكي، فقال له الرجل: ما يبكيك لعلك استقللت ما دفعناه إليك؟ فقال: لا والله ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني . وقال بعضهم: قصد رجل إلى صديق له فدق عليه الباب، فخرج إليه وسأله عن حاجته، فقال: علي دين كذا وكذا،
فدخل الدار وأخرج إليه ما كان عليه، ثم دخل الدار باكيا، فقالت له زوجته: هلا تعللت حيث شقت عليك الإجابة، فقال : إنما أبكى لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى أن سألني .
ويروي أن عبد الله بن أبي بكر، وكان من أجود الأجواد عطش يوما في طريقه، فاستقى من منزل امرأة فأخرجت له كورا، وقامت خلف الباب وقالت: تنحوا عن الباب، وليأخذه بعض غلمانكم، فإنني امرأة عزب مات زوجي منذ أيام، فشرب عبد الله الماء وقال : يا غلام احمل إليها عشرة آلاف درهم، فقالت: سبحان الله أتسخر بي؟ فقال : يا غلام احمل إليها عشرين إلقا، فقالت: أسأل الله العافية، فقال: يا غلام احمل إليها ثلاثين ألفا فما أمست حتى كثر خطابها. وكان رضي الله تعالى عنه ينفق على أربعين داراً من جيرانه عن يمينه، وأربعين عن يساره، وأربعين أمامه، وأربعين خلفه، ويبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، ويعتق في كل عيد مائة مملوك رضي الله تعالى
ولما مرض قيس بن سعد بن عبادة استبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له : إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد. وكان عبد الله بن جعفر من الجود بالمكان المشهود وله فيه أخبار يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، وكان معاوية يعطيه ألف ألف درهم في كل سنة، فيفرقها في الناس ولا يرى إلا
(1) أبو على التالي : هو إسماعيل بن القاسم بن عيلون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سلمان أبو على القالي أحفظ أهل زمانه للغة والشعر والأدب، تعلم في بغداد، ثم رحل إلى المغرب، وله: «النوادر» و «أمالي القالي» و «البارع»، توفي في قرطبة سنة (٣٥٦هـ – ٩٦٧م).
وعليه دين. وسمن رجل بهيمة ثم خرج بها لبيعها، فمر بعبد الله بن جعفر رضی الله تعالى عنه، فقال: يا صاحب البهيمة أتبيعها؟ قال: لا، ولكنها هي لك هبة، ثم تركها له وانصرف إلى بيته، فلم يلبث إلا يسيراً، وإذا بالحمالين على بابه عشرين نفراً. عشرة منهم يحملون حنطة، وخمة لحماً وكسوة، وأربعة يحملون فاكهة ونقلاً، وواحد يحمل مالاً، فأعطاه جميع ذلك، واعتذر إليه رضى الله تعالى عنه.
ولما مات معاوية رضى الله تعالى عنه، وفد عبد الله بن جعفر على يزيد ابنه فقال : كم كان أمير المؤمنين معاوية يعطيك ؟ فقال : كان رحمه الله يعطيني ألف ألف فقال يزيد قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف فقال : بأبي وأمي أنت، فقال: ولهذه ألف ألف، فقال: أما إنى لا أقولها لأحد بعدك فقيل ليزيد أعطيت هذا المال كله من مال المسلمين لرجل واحد، فقال: والله ما أعطيته إلا لجميع أهل المدينة، ثم وكل به يزيد من صحبه وهو لا يعلم لينظر ما يفعل، فلما وصل المدينة فرق جميع المال حتى احتاج بعد شهر إلى الدين وخرج رضى الله تعالى عنه هو والحسنان وأبو دحية الانصارى رضى الله تعالى عنهم من مكة إلى المدينة، فأصابتهم السماء بمطر، فلجأوا إلى خباء أعرابي فأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى سكنت السماء، فذبح لهم الأعرابي شاة، فلما ارتحلوا قال عبد الله للأعرابي: إن قدمت المدينة، فل عنا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين فقالت له امرأته لو أتيت المدينة، فلقيت أولئك الفتيان، فقال : قد نسيت أسماءهم، فقالت: سل عن ابن الطيار، فأتى المدينة، فلقى سيدنا الحسن رضى الله تعالى عنه، فأمر له بمائة ناقة بفحولها وبرعاتها، ثم أتى الحسين رضى الله تعالى عنه فقال : كفانا أبو محمد مؤونة الإبل، فأمر له بألف شاة، ثم اتى عبد الله بن جعفر رضى الله تعالى عنه فقال : كفاني إخواني الإبل والشياه، فأمر له بمائة ألف درهم. ثم أتى أبا دحية رضى الله تعالى عنه فقال : والله ما عندى مثل ما أعطوك، ولكن ائتنى بإبلك، فأوقرها لك عمراً. فلم يزل اليسار في عقب الأعرابي من ذلك اليوم.
وقال الحسن والحسين يوماً لعبد الله بن جعفر رضى الله عنهم: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما. إن الله عز وجل عودني أن يتفضل على وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع على المادة، وامتدحه نصيب، فأمر له بخيل، وأثاث ودنانير ودراهم. فقال له رجل مثل هذا الأسود تعطى له هذا المال؟ فقال: إن كان أسود فإن ثناءه أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى ومالاً يفنى، وأعطانا مدحاً يروى وثناء يبقى وخرج عبد الله رضى الله تعالى عنه يوماً إلى ضيعة له، فنزل على حائط به نخيل لقوم، وفيه غلام أسود يقوم عليه، فأتي بقوته ثلاثة أقراص، فدخل كلب، فدنا من الغلام، فرمى إليه بقرص، فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث، فأكلهما. وعبد الله ينظر إليه، فقال: ياغلام. كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت؟ قال: فلم أثرت هذا الكلب؟ قال: أرضنا ما هي بأرض كلاب، وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت أن أرده، قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال : أطوى يومى هذا، فقال عبد الله بن جعفر الام على السخاء، وإن هذا لأسخى منى، فاشترى الحائط، وما فيه من النخيل والآلات واشترى الغلام ثم أعتقه، ووهبه الحائط بما فيه من النخيل والآلات. فقال الغلام: إن كان
ذلك لي فهو في سبيل الله تعالى، فاستعظم عبد الله ذلك منه، فقال: يجود هذا وأبخل أنا؟ لا كان ذلك أبداً. وكان عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما من الأجواد، أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه، قال: يا ابن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره، فلم يعرفه، فقال: ما يدك؟ قال: رأيتك واقفاً بفناء زمزم وغلامك يمنح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظللتك بفضل كسالى حتى شربت فقال : أجل إني لأذكر ذلك، ثم قال لغلامه : ما عندك ؟ قال : مائتا دينار، وعشرة آلاف درهم فقال: ادفعها إليه، وما أراها تفى بحق يله. وقدم عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما على معاوية مرة، فأهدى إليه من هدايا النوروز حللاً كثيرة ومسكاً، وأنية من ذهب وفضة، ووجهها إليه مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال له: هل في نفسك منها شيء؟ قال : نعم والله إن في نفسى منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام، فضحك عبد الله، وقال: خذها، فهي لك، قال: جعلت فداءك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية، فيحقد على، قال: فاختمها بخاتمك، وسلمها إلى الخازن، فإذا كان وقت خروجنا حملناها إليك ليلاً، فقال الحاجب والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم
وحبس معاوية عن الحسين بن على رضى الله تعال
ى عنهما صلاته فقيل: لو وجهت إلى ابن عمك عبد الله بن
عباس، فإنه قدم بنحو ألف ألف، فقال الحسين وأني تقع ألف ألف من عبد الله، فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر، ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب يذكر فيه حبس معاوية صلاته عنه، وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبد الله كتابه انهملت عيناه، وقال: ويلك يا معاوية أصبحت لين المهاد رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال، ثم قال لوكيله: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من ذهب وفضة ودواب، وأخبره أنى شاطرته، فإن كفاه وإلا احمل إليه النصف الثاني، فلما أتاه الرسول قال: إنا لله وإنا إليه
راجعون ثقلت والله على ابن عمى، وما حسبت أنه يسمح لنا بهذا كله رضوان الله عليهم أجمعين.
وجاء رجل من الأنصار إلى عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما فقال له: يا ابن عم محمد ﷺ إنه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإني سميته باسمك تبركا بك، وإن أمه ماتت، فقال له : بارك الله لك في الهية، وأجرك على
المصيبة، ثم دعا بوكيله، وقال له: أنطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع لأبيه مالتي دينار لينفقها على تربيته، ثم قال للأنصارى: عد إلينا بعد أيام، فإنك جتنا، وفى العيش يبس، وفى المال قلة، فقال الأنصاري: جعلت
فداءك لو سبقت حاتماً بيوم ما ذكرته العرب .
وقال أبو جهم بن حذيفة يوما لمعاوية : أنت عندنا يا أمير المؤمنين كما قال ابن عبد كلال:
يقيناً ما نخاف وإن ظنا
نميل على جوانبه كانا
نقلبه لتخبر حالتـــــيــــــه
به خير أراناه يقينا
إذا ملنا نميل على أبينا
فتخبر منهما كرماً ولينا
فأمر له بمائة ألف درهم، وأنشده عبد الله بن الزبير رضى الله تعالى عنهما:
بلوت الناس قرناً بعد قرن
ولم أر في الخطوب أشد وقعاً
وذقت مرارة الأشياء طرا
فلم أر غـيــر خـــــــــــال وقــال
وأمضى من معاداة الرجال
فما شيء أمر من السؤال
فأعطاه مائة ألف درهم. ودخل عليه الحسن يوماً وهو مضطجع على سريره، فسلم عليه، وأقعده عند رجليه وقال :
ألا تعجب من قول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها تزعم أنى لست للخلافة أهلاً، ولا لها موضعاً؟ فقال الحسن: أو
عجباً مما قلت؟ قال: كل العجب. قال الحسن وأعجب من هذا كله جلوسي عند رجليك، فاستحيا معاوية، واستوى
جالساً، ثم قال: أقسمت عليك يا أبا محمد إلا ما أخبرتني كم عليك دينا؟ قال: مائة ألف درهم، فقال یا غلام اعط
أبا محمد ثلاثمائة ألف درهم مائة ألف يقضى بها دينه، ومائة يفرقها على مواليه، ومائة يستعين بها على نوائبه،
وسوغها إليه الساعة. وكان معن بن زائدة من الاجواد وكان عاملاً على العراق بالبصرة، قيل: إنه أتى إليه أحد
الشعراء، فأقام ببابه مدة يريد الدخول عليه، فلم يتهيأ له ذلك، فقال يوماً لبعض الخدم : إذا دخل الأمير البستان
فعرفني، فلما دخل اعلمه بذلك، فكتب الشاعر بيتاً ونقشه على خشبة والقاها في الماء الذي يدخل البستان، وكان معن
جالاً على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها، وقرأها فإذا فيها بيت مفرد
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي
فليس إلى معن سواك شفيع
فقال: من الرجل صاحب هذه؟ فأتى به إليه فقال : كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها
وانصرف ووضع معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط ونظر فيها، وقال: على بالرجل صاحب هذه، فأتى به فقال له : كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف. ووضع
معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان في اليوم الثالث أخرجها ونظر فيها، وقال: على بالرجل صاحب هذه ، فأتى به إليه، فقال له : كيف قلت؟ فأنشده البيت فأمر له بعشر بدر، فأخذها وتفكر في نفسه وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه، فخرج من البلد بما معه، فلما كان اليوم الرابع طلب الرجل فلم يجده، فقال معن: لقد ساء والله ظنه، ولقد هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالی درهم، ولا دينار. وفيه يقول القائل:
يقولون معن لا زكاة الماله إذا حال حول لم تجد في دياره تراه إذا ما جئته متهللاً تعود بط الكف حتى لو أنه فلو لم يكن في كفه غیر نفسه
وكيف يزكي المال من هو باذله من المال إلا ذكره وجمائله كأنك تعطيه الذي أنت نائله أراد انقباضاً لم تطعه أنامله لجاد بها فليتق الله سائله
ومن قول معن:
دعيني أنهب الأموال حتى
اعف الأكرمين عن اللئام
وكان يزيد بن المهلب من الأجواد الأسخياء، وله أخبار في الجود عجيبة من ذلك ما حكاه عقيل بن أبي طالب (1) رضى الله تعالى عنه قال : لما أراد يزيد بن المهلب الخروج إلى واسط أتيته، فقلت: أيها الأمير إن رأيت أن تأذن لي فاصحبك، قال: إذا قدمت واسط، فاتنا إن شاء الله تعالى فسافر وأقمت فقال لى بعض إخواني اذهب إليه، فقلت: كان جوابه فيه ضعيف قالوا: أتريد من يزيد جواباً أكثر مما قال ؟ قال: فرت حتى قدمت عليه، فلما كان في الليل دعيت إلى السمر، فتحدث القوم حتى ذكروا الجوارى، فالتفت إلى زيد وقال : إيه يا عقيل، فقلت :
أفاض القوم في ذكر الجواري
فأما الأعزبون فلن يقولوا
قال : إنك لم تبق عزباً. فلما رجعت إلى منزلى إذا أنا بخادم قد أتاني ومعه جارية وفرش بيت وبدرة عشرة آلاف
درهم، وفي الليلة الثانية كذلك، فمكثت عشر ليالي، وأنا على هذه الحالة، فلما رأيت ذلك دخلت عليه في اليوم العاشر، فقلت أيها الأمير : قد والله أغنيت وأقنيت، فإن رأيت أن تأذن لي في الرجوع، فأكبت عدوى وأمر صديقي فقال : إنما أخيرك بين خلتين إما أن تقيم فنوليك، أو ترحل فنغنيك. فقلت: أولم تغنيني أيها الأمير؟ قال: إنما هذا
تغننى أثاث المنزل، ومصلحة القدوم، فنالنى من فضله ما لا أقدر على وصفه.
وحدث أبو اليقظان عن أبيه قال: حج يزيد بن المهلب، فطلب حلاقاً يحلق رأسه، فجاءه بحلاق، فحلق رأسه فأمر له بخمسة آلاف درهم، فتحير الحلاق ودهش وقال : أخذ هذه الخمسة آلاف وأمضى إلى أم فلان أخبرها أني قد استغنيت؟ فقال: اعطوه خمسة آلاف أخرى، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك. وقيل: إن الحجاج حبه على خراج وجب عليه مقداره مائة ألف درهم، فجمعت له، وهو في السجن، فجاء الفرزدق يزوره، فقال للحاجب: استأذن لى عليه، فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه، فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجعاً لما فيه، ولم آت
ممتدحاً، فأذن له، فلما أبصره قال :
أبا خالد ضاقت خراسان بعدكم
وقال ذوو الحاجات اين يزيد
فما قطرت بالشرق بعدك قطرة
ولا أخضر بالمروين بعدك عود
وما لرور بعد عزك بهجة
وما الجواد بعد جودك جود
(۱) عقيل بن أبي طالب: هو عقيل بن عبد مناف (أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي وكنيته أبو يزيد، أعلم أهل قريش بأيامها ومكرها ومثالبها، وأنسابها، صحابی فصیح اللسان شديد الجواب، وكان أحد الأربعة التي تتحاكم إليهم قريش في المنافرات، أسلم بعد الحديبية، وكان الناس يأخذون عنه الأنساب والاخبار في مسجد المدينة، وكان في حلب وأطرافها جماعة يتبون إليه، يعرفون ببني عقيل توفي سنة ( ٦٠هـ – ٦٨٠م) .
۱۸۱
فقال يزيد للحاجب ادفع إليه المائة ألف درهم التي جمعت لنا ودع الحجاج ولحمى يفعل فيه ما يشاء، فقال الحاجب للفرزدق هذا الذي خفت منه لما منعتك من دخولك عليه، ثم دفعها إليه، فأخذها وانصرف ومر يزيد بن المهلب عند خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه بعجوز أعرابية، فذبحت له عتزاً، فقال لابنه: ما معك من النفقة؟ قال : مائة دينار قال : ادفعها إليها، فقال: هذه يرضيها البسير وهي لا تعرفك. قال: إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسى. وقال مروان بن أبي الحبوب الشاعر : أمر لي المتوكل بمائة وعشرين ألفاً وخمسين ثوباً، ورواحل كثيرة، فقلت أبياتاً في شكره، فلما بلغت قولی
فامك ندى كفيك عنى ولا تزد فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
فقال: والله لا أمك حتى أغرقك بجودى، وأمر له بضياع تقوم بألف ألف. وقال أبو العيناء تذاكروا السخاء، فاتفقوا على آل المهلب في الدولة المروانية، وعلى البرامكة في الدولة العباسية، ثم اتفقوا على أن أحمد بن أبي داود أسخى منهم جميعاً وأفضل وسئل إسحاق الموصلى عن سخاء أولاد يحيى بن خالد، فقال: أما الفضل فيرضيك فعله،
وأما جعفر، فيرضيك قوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وفي يحيى يقول القائل :
سأنت الندى هل أنت حر فقال لا فقلت شراء قال لا بل وراثة
ولكنني عبد ليحيى بن خالد
توارثنى من والد بعد والد
وفي الفضل يقول القائل :
إذا نزل الفضل بن يحيى ببلدة فليس بسعال إذا سيل حاجة
وفي محمد يقول القائل:
سألت الندى والجود مالي أراكما
وما بال ركن المجد امی مهدماً
رأيت بها غيث السماحة ينبت
ولا يمكب في ثرى الأرض ينكت
تبدلتما عزم بذل مسويد
فقال أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت فهلا متما بعد موته
وقد كنتما عبديه في كل مشهد
فقالا أقمنا کی نعزی بفقده
مسافة يوم ثم نتلوه في غد
وقال على بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه وكرم الله وجهه من كانت له حاجة فليرفعها إلى في كتاب الأصون وجهه عن المسألة. وجاءه رضى الله تعالى عنه أعرابي فقال يا أمير المؤمنين إن لى إليك حاجة، الحياء يمنعنى أن أذكرها، فقال: خطها في الأرض، فكتب إنى فقير فقال : يا قنبر اكسه حلتي، فقال الأعرابي
کسوتنى حلة تبلى محاسنها
فوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن الثنا قد نلت مكرمة
وليس تبغى بما قدمته بدلا
إن الثناء ليحيى ذكر صاحبه
كالغيث يحيى نداء السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به
كل امرىء سوف يجزى بالذي فعلا
فقال : يا قنبر زده مائة دينار فقال يا أمير المؤمنين لو فرقتها في المسلمين لأصلحت بها من شأنهم. فقال رضى الله تعالى عنه : صه ياقنبر، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول : اشكروا لمن أثنى عليكم وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه
ولعبد الله بن جدعان :
إنى وإن لم يتل مالی مداخلتی رهاب ما ملكت ك في من المال لا أحبس المال إلا حيث أنفقه ولا يغيرني حال إلى حال وقال بعض العرب لولده يا بنى لا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف فكم راغب كان مرغوباً إليه، وطالب
كان مطلوباً ما لديه، وكن كما قال القائل :
وعد من الرحمن فضلاً ونعمة ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغباً عليك إذا ما جاء للخير طالب فإنك لاتدرى متى أنت راغب
وقال بعضهم :
ابيت خميص البطن عريان طاوياً وأمنحه فرشي وافترش الشرى حذار أحاديث المحافل في غد وأوثر بالزاد الرفيق على نفسى وأجعل متر الليل من دونه لبى إذا ضمني يوماً إلى صدره رمى
وقال يحيى البرمكي (۱): أعط من الدنيا وهي مقبلة، فإن ذلك لا ينقصك منها شيئاً، وأعط منها وهي مديرة فإن منعك لا يبقى عليك منها شيئاً، فكان الحسن بن سهل يتعجب من ذلك، ويقول: لله دره ما أطبعه على الكرم، وأعلمه
بالدنيا، وقد أملى يحيى من نظمه فقال :
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فإن تولت فأحرى أن تجود بها
فليس ينقصها التبذير والرف فلیس تبقى ولكن شكرها خلف
وقال يحيى لولده جعفر : يابني مادام قلمك يرعد فامطره معروفاً وقال بعضهم:
لا تكثرى في الجود لائمتي کفی فلت بــحــــــــــامــل أبداً
وإذا بخلت فأكثرى لومي ما عشت هم غد إلى يومى
وقال على رضى الله عنه وكرم وجهه : لا تستح من عطاء القليل، فالحرمان أقل منه ومثل إسحاق الموصلى عن
المخلوع، فقال: كان أمره كله عجباً، كان لا يبالى أن يقعد مع جلسائه، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر. كان عنده
سليمان بن أبي جعفر يوماً، فأراد الرجوع إلى أهله، فقال له : سفر البر أحب إليك أم سفر البحر؟ قال: البحر الين
على فقال : أوفروا له زورقه ذهباً وأمر له بألف ألف درهم.
وشكا سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان موسى شهوات إلى سليمان بن عبد الملك، وقال: قد هجاني يا أمير
المؤمنين، فاستحضره سليمان، وقال: لا أم لك أنهجو سعيداً؟ قال يا أمير المؤمنين أخبرك الخبر: عشقت جارية مدنية،
وأتيت سعيداً، فقلت: إنى أحب هذه الجارية وإن مولاتها أعطيت فيها مائتي دينار وقد أتيتك، فقال لي: بورك فيك
فقال سليمان: ليس هذا موضع بورك فيك. قال: فأتيت يا أمير المؤمنين سعيد بن خالد، فذكرت له حالی، فقال: يا
جارية هاتي مطرفاً، فأنته بمطرف خز، قصر لي في كل زاوية ماتتي دينار، فخرجت وأنا أقول :
(1) يحيى البرمكي: هو يحيى بن خالد بن يرمك، أبو الفضل، الوزير السرى الجواد، سيد بني برمك وأفضلهم وهو مؤدب الرشيد العياسي ومعلمه
ومربيه، ولما ولى الخلافة دفع خاتمه إلى يحيى، وقلده أمره فبدأ يعلو شأنه، واشتهر يحيى بجوده و حسن سیاسته و استمر إلى أن تكب الرشيد
البرامكة القبض عليه وسجنته في (الرقة) إلى أن مات فقال الرشيد: مات أعقل الناس وأكملهم مات سنة ( ١٩٠هـ – ٨٠٥).
۱۸۳
أبا خالد أعنى سعيد بن خالد أخا العرف لا أعنى ابن بنت سعيد ولكنني أعنى ابن عائشة الذي أبو أبويه خالد بن أسـيـد عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى فإن مات لم يرض الندى بعقيد ذروه ذروه إنكم قد رقدتموا وما هو عن إحسانكم برقود
فقال سليمان قل ما شئت وكتب كلثوم بن عمر إلى بعض الكرماء رقعة فيها :
إذا تكرمت أن تعطى القليل ولم تقدر على سعة لم يظهر الجود بت النوال ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمود
فشاطره ماله حتى بعث إليه بنصف خاتمه وفردة نعله وباع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضاً بثمانين ألفاً، فقيل له : لو اتخذت لولدك من هذا المال ذخراً ؟ فقال : بل اجعله ذخراً لى، واجعل الله ذخراً لولدي وقسمه بين ذوي الحاجات. وكان ابن مالك القشيرى من الأجواد، قيل: إنه أنهب الناس ماله بعكاظ ثلاث مرات، فعاتبه خاله، فقال:
یا خال ذرنى و مالى ما فعلت به
وخذ نصيبك منه إننى مودى
فانظر بكيدك هل تستطيع تخليدى
ولن أعيش بمال غير محمود
فلن أطيعك إلا أن تخلدني
الحمد لا يشترى إلا بمكرمة
وقال المهلب: عجبت لمن يشترى المماليك بماله كيف لا يشترى الأحرار بفعاله. ونزل بأبي البحتري وهب بن وهب
القرشي ضيفاً، فسارع عبيده إلى إنزاله وخدموه أحسن خدمة، وفعلوا به كل جميل فلما هم بالرحيل لم يقربه أحد
منهم وتجنبوه، فأنكر ذلك عليهم، فقالوا: نحن إنما نعين النازل على الإقامة ولا نعينه على الرحيل. ووفدت ليلى
الاخيلية (1) على الحجاج، فقالت فيه:
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة
شفاها من الداء العضال الذي بها
تتبع أقصى دائها فشفاها غلام إذا هز القناة سقاها
فقال : لا تقولي غلام ولكن قولى همام يا غلام اعطها خمسمائة فقالت: يا أيها الأمير اجعلها نعماً، فجعلها
إيلا إناثاً، وقال أبو الفياض الطبري
والعز ضيف لايراه بربعه
من لا يسرى بذل التلاد تلادا
والجود أعلى كعب كعب قبلنا فمضى جواداً يوم مات جوادا
وقال آخر :
(1) ليلى الأخيلية: هي ليلى بنت عبد الله الرحال بن شداد بن كعب الأخيلية، من بني عامر من صعصعة شاعرة قصيحة ذكية، اشتهرت بأخبارها مع
توبة بن الحمير، ووفدت على (الحجاج) مرات فكان يكرمها ويقربها، وهي في الشعر دون الخناء مرتبه، وكانت بينها وبين النابغة الجعدي مهاجاة
ولها ديوان ليلى الأخيلية توقيت سنة (٨٠هـ – ٧٠٠ م).
أيقنت أن من السماح شجاعة
وعلمت أن من السماحة جودا
وقال أحمد بن حمدون النديم: عملت أم المستعين بساطاً على صورة كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينهم يواقيت وجواهر أنفقت عليه مائة ألف ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وسألته أن يقف عليه، وينظر إليه، فكل ذلك اليوم عن رؤيته. وقال أحمد بن حمدون فقال لي ولا ترجة الهاشمي: اذهبا، فانظر إليه، وكان معنا الحاجب، فمضينا ورأيناه فوالله ما رأينا في الدنيا شيئاً أحسن منه، ولا شيئاً حسناً إلا وقد عمل فيه، فمددت أنا يدى إلى غزال من ذهب عيناه ياقوتتان، فوضعته في كمي، ثم جتناه، فوصفنا له حسن ما رأيناه، فقال أترجة يا أمير المؤمنين: إنه قد سرق منه شيئاً، وغمزه على كمى فأريته الغزال، فقال: بحياتي عليكما ارجعا، فخذا ما أحببتما، فمضينا، فملأنا أكمامنا وأقبلنا نمشي كالحبالي، فلما رأنا ضحك، فقال بقية الجلساء : ونحن فما ذنبنا يا أمير المؤمنين؟ فقال : قوموا، فخذوا ما شئتم ثم قام ووقف على الطريق ينظر كيف يحملون ويضحك. ونظر يزيد المهلبي سطلاً من ذهب مملوء مسكاً، فأخذه بيده وخرج، فقال له المستعين: إلى أين؟ فقال: إلى الحمام يا أمير المؤمنين. فضحك من قوله، وأمر الفراشين والخدم أن ينتهبوا الباقي، فانتهبوه فوجهت إليه أمه تقول: سر الله أمير المؤمنين لقد كنت أحب أن يراه قبل أن يفرقه فإنني أنفقت عليه مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار فقال : يحمل إليها مثل ذلك حتى تعيد مثله، ففعلت، ومضى حتى رأه، وفعل به كفعله الأول. ودخل طلحة بن عبد الله بن عوف السوق يوماً، فوافق فيه الفرزدق فقال يا أبا فراس اختر عشراً من الإبل، ففعل، فقال ضم إليها مثلها، فلم يزل يقول مثل ذلك حتى بلغت مائة، فقال: هي لك، فقال:
يا طلح أنت أخو الندى وعقيده
إن الندى ما مات طلحة ماتا
إن الندى ألقى إليك رحاله
فبحيت بت من المنازل باتا
وقدم زياد الأعجم على عبد الله بن الحشرج بنيسابور، فأكرمه، وأنعم عليه، وبعث إليه بألف دينار، فقال :
إن الماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
فقال زدنی، فقال: كل شيء وثمنه. ووفد أبو عطاء السدى على نصر بن سيار بخراسان مع رفيقين له، فأنزله،
وأحسن إليه، وقال: ما عندك يا أبا عطاء؟ فقال: وما عسى أن أقول، وأنت أشعر العرب غير أني قلت بيتين. قال:
هات ما قلت فقال:
يا طالب الجود إما كنت تطلبه
الواهب الحميل تغدو في أعنتها
فاطلب على بابه نصر بن سيار
مع القيان وفيها ألف دينار
فأعطاء ألف دينار، ووصائف، وكاه كسوة جميلة، فقسم ذلك بين رفيقيه، ولم يأخذ منه شيئاً، فبلغ ذلك نصراً،
فقال : يا له. قاتله الله من سيد، ما أضخم قدره، ثم أمر له بمثله. وقال العتبي: أشرف عمرو بن هبيرة يوماً من قصره، فإذا هو بأعرابي يرقل قلوصه، فقال عمرو الحاجبه: إن أرادني هذا الأعرابي، فأوصله إلى، فلما وصل الأعرابي
سأله الحاجب، فقال: أردت الأمير، فدخل به إليه، فلما مثل بين يديه قال له : ما حاجتك؟ فأنشد الأعرابي يقول :
أصلحك الله قل ما بیدی
ولا أطيق العيال إذا كثروا
اناخ دهری على كلكله
فار سلوني إليك وانتظروا
فأخذت عمر الأربحية، فجعل يهتز في مجلسه ثم قال:
١٨٥
زيارته إني إذا للتيم
أرسلوك إلى وانتظروا إذن والله لا تجلس حتى ترجع إليهم، ثم أمر له بألف دينار. وقيل: أراد ابن عامر أن يكتب الرجل خمسين ألف درهم، فجرى القلم بخمسمائة ألف فراجعه الخازن في ذلك، فقال: انفله، فما بقى إلا نفاذه، وأن خروج المال أحب إلى من الاعتذار، فاستشرفه الخازن فقال : إذا أراد الله بعبد خيراً صرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئاً وأراد الجواد الكريم أن يعطى عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالية، وأمره النافذ. ووقف أعرابي على ابن عامر فقال يا قمر البصرة، وشمس الحجاز، ويا ابن ذروة العرب، وابن بطحاء مكة برحت بي الحاجة، وأكدت بي الآمال إلا بفنائك، فامنحنى بقدر الطاقة لا يقدر المجد والشرف والهمة، فأمر له بمائتي
ألف درهم. وسمع المأمون قول عمارة بن عقيل:
أترك إن قلت در هم خالد
فقال : أو قلت دراهم خالد احملوا إليه مائة ألف درهم، فبعثها خالد بن يحيى إلى عمارة بن عقيل، وقال: هذه قطرة من سحابك. ولما عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة بكى، ثم قال: والله ما بكائي جزعاً من العزل، ولا أسفاً على الولاية، ولكن أخاف على هذه الوجوه أن يلى أمرها من لا يعرف لها حقاً. وأراد الرشيد أن يخرج إلى بعض المتفرجات فقال يحيى بن خالد بن عبد العزيز وكان على نفقاته ما عند وكلائنا من الأموال؟ قال : سبعمائة ألف درهم. قال : فاقبضها إليك يا رجاء فلما كان من الغد دخل عليه رجاء، فقبل يده وعنده منصور بن زياد، فلما خرج رجاء قال يحيى المنصور: قد ظننت أن رجاء توهم أنا قد وهبنا المال، وإنما أمرناه بقبضه من الوكلاء ليحفظه علينا لحاجتنا إليه في وجهنا هذا، فقال منصور: أنا أستخبر لك هذا. فقال يحيى: إذن يقول لك قل له يقبل يدى كما قبلت يده، فلا تقل له شيئاً، فقد تركتها له. وقيل: إن الرشيد وصل في يوم واحد بألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسين الفا. ووصل
المنصور في يوم واحد لبني هاشم، ووجوه قواده بعشرة آلاف ألف دينار على ما ذكر .
وعن الأخفش الصغير (1) قال : كان أسيد بن عنقاء الفزارى من أكبر أهل زمانه قدراً وأكثرهم أدباً، وأفصحهم لساناً وأثبتهم جناناً، فطال عمره ونكبه دهره فخرج عشية ينتقل لأهله، فمر به عميلة الفزاري، فسلم عليه، وقال: ما أصارك يا عم إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله وصون وجهى عن مسألة الناس فقال: والله لئن بقيت إلى غد الأغيرن ما أرى من حالك، فرجع ابن عنقاء إلى أهله، فأخبرها بما قال له عميلة، فقالت له : لقد غرك كلام غلام في جنح الليل، قال : فكأنما القسمت فاء حجراً وبات متململاً بين رجاء ويأس، فلما كان وقت السحر سمع رغاء الإبل وصهيل الخيل تحت الأموال، فقال: ما هذا؟ قالوا : عميلة قد قسم ماله شطرين، وبعث إليك بشطره، فأنشأ يقول :
راني على ما بي عميلة فاشتكي
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه
غلام حياه الله بالحن يافعاً
كان الثريا علقت في جبينه
إلى ماله حالی فواسي وما هجر
تردی رداء سابغ الذيل واتزر
له سيمياء لا تشق على البصر
وفي أنفه الشعري وفي جيده القمر
وكان عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي (۲) من الأجواد. قيل: إنه كان الرجل جارية يهواها، فاحتاج إلى يبعها،
فابتاعها منه ابن معمر بمال جزيل، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول :
(1) الأخفش: هو على بن سليمان بن الفضل، أبو المحاسن المعروف بالأخفض الأصفر، نحرى من العلماء، من أهل بغداد، أقام بمصر، وخرج إلى حلب ثم عاد إلى بغداد من تصانيفه (شرح سيبويه) و (الأنواء) و (المهذب) توفى سنة (٣١٥ هـ – ٩٢٧م).
(۲) عبيد الله بن معمر هو عمر بن عبيد الله بن محمر بن عثمان التميمي القرشي، سيد بني تميم في عصره، من كبار القادة الشجعان الأجواد، كان من
رجال مصعب بن الزبير أيام ولايته في العراق، ولى بلاد فارس أرسله عبد الملك القتال أبي فديك)، قال قطري بن فجاءة يصفه : بطل يقاتل لدينه وملكه بعزيمة لم أو مثلها لأحد، ما حضر حرياً إلا كان أول فارس يقتل قرنه توفى سنة (۸۲هـ – ٧٠١م).
هنيئاً لك المال الذي قد قبضته أبوء بحزن من فراقك موجع
فأجابها بقوله :
ولم يسبق في كفى غير التحر آناجی به صدراً طويل الفكر
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري عليك سلام لا زيارة بيننا ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر قد شئت وقد وهبتك الجارية وثمنها، فخذها وانصرف ووفد أبو الشمقمق إلى مدينة سابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها توجه إلى منزله فوجده في دار الخراج يطالب، فدخل عليه يتوجع له، فلما رآه
محمد قال :
ولقد قدمت على رجال طالما أخنى الزمان عليهم فكانما قدم الرجال عليهم فتمولوا كانوا بأرض أقفرت فتحولوا
فقال أبو الشمقمق:
الجود أفلهم وأذهب مالهم
فاليوم إن راموا السماحة يخلوا
قال: فخلع محمد ثوبه وخاتمه ودفعهما إليه، فكتب بذلك مستوفى الخراج إلى الخليفة، فوقع إلى عامله بإسقاط
الخراج عن محمد بن عبد السلام في تلك السنة، وإسقاط ما عليه من البقايا، وأمر له بمائة ألف درهم معونة على
مروءته. وقال أبو العيناء حصلت لي ضيقة شديدة، فكتمتها عن أصدقائي، فدخلت يوماً على يحسين بن أكثم
القاضي، فقال: إن أمير المؤمنين جلس للمظالم، وأخذ القصص، فهل لك في الحضور ؟ قلت: نعم، فمضيت معه إلى
دار أمير المؤمنين، فلما دخلنا عليه أجلسه وأجلسني، ثم قال: يا أبا العيناء بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه
الساعة ؟ فأنشدته :
لقد رجوتك دون الناس كلهم إن لم يكن لي أسباب أعيش بها
وللرجاء حقوق كلها تحب ففى العلا لك أخلاق هي السبب
فقال: يا سلامة انظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين فقال : بقية من مال قال: فادفع له منها مائة ألف
درهم، وابعث له بمثلها في كل شهر. فلما كان بعد أحد عشر شهراً مات المأمون، فبكى عليه أبو العيناء، حتى تقرحت
أجفانه، فدخل عليه بعض أولاده، فقال: يا أبناء بعد ذهاب العين ماذا ينفع البكاء، فأنشأ أبو العيناء يقول :
شيشان لو بكت الدماء عليهما لم يبلغا المعشار من حقيهما
عینای حستى يؤذنا بذهاب فقد الشباب وفرقة الأحباب
وكان أحمد بن طولون كثير الصدقة، وكان راتبه منها في الشهر ألف دينار سوى ما يطرأ عليه من نذر أو صلة
وسوى ما يطبخ في دار الصدقة. وكان الموكل بصدقته سليم الخادم، فقال له سليم يوماً : أيها الأمير إنى أطوف القبائل،
وأدق الأبواب الصدقاتك، وإن اليد تمد إلى، وفيها الحناء، وربما كان فيها الخاتم الذهب والسوار الذهب، أفأعطى أم
أرد؟ قال: فأطرق طويلاً، ثم قال : كل يد امتدت إليك فلا تردها. وقال سلمة بن عياش في جعفر بن سليمان :
من الناس إلا ربح كفك اطيب وما شم أنفى ربح كف شمعتها فأمر له بألف دينار ومائة مثقال مسك ومائة مثقال عنبر. وكان عبد العزيز بن عبد الله جواداً. مضيافاً، فتغدى عنده
أعرابي يوماً، فلما كان من الغد مر على بابه، فرأى الناس في الدخول على هيئتهم الأمس، فقال: أوكل يوم يطعم
الأمير الناس؟ قالوا: نعم، فأنشأ يقول :
أكل يوم كانه عيد أضحى وله الف جفنة مترعات
عند عبد العزيز أو عيد فطر كل قدر يمدها ألف قدر
وتعشى الناس ليلة عند سعيد بن العاص (۱) ، فلما خرجوا بقى فتى من الشام قاعداً، فقال له سعيد: ألك حاجة؟ على بن سليمان الوزير، فقال له: سألتك بالله العظيم ونبيه الكريم إلا ما أجرتني من خصمى، فقال: ومن خصمك حتى أجيرك منه؟ فقال : الفقر، فأطرق الوزير ساعة، وقال: قد أمرت لك بمائة ألف درهم، فأخذها وانصرف. فبينما هو في الطريق إذ أمر الوزير برده إليه، فلما رجع قال له : سألتك بالله العظيم ونبيه الكريم متى أتاك خصمك معنفاً، فارجع إلينا متظلماً. وقال الأعمش كانت عندى شاة، فمرضت وفقدت الصبيان لبنها، فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشى ويسألني هل استوفت علفها ؟ وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها، وكانت تحتى لبد أجلس عليه، فكان إذا خرج يقول: خذ ما تحت اللبد حتى وصل إلى من علة الشاة أكثر من ثلاثمائة دينار من بره حتى تمنيت
وأطفأ الشمعة كراهة أن يخجل الفتى، فذكر أن أباه مات، وخلف ديناً وعيالاً، وسأله أن يكتب له كتاباً إلى أهل دمشق ليقوموا ببعض إصلاح حاله، فدفع له عشرة آلاف دينار وقال له: لا أدعك تقاسى الذل على أبوابهم. ودخل رجل على
أن الشاة لم تبرأ .
وحكى أبو قدامة القشيري قال : كنا مع يزيد بن مزيد يوماً، فسمع صائحاً يقول: يا يزيد بن مزيد، فطلبه فأتى به إليه، فقال: ما حملك على هذا الصباح؟ قال: فقدت دابتي ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر :
إذا قيل من للجود والمجد والندى فنادى بصوت بایزید بن مزيد
فأمر له بفرس أبلق كان معجباً به وبمائة دينار وخلعه سنية فأخذها وانصرف.
وحكى أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيالهم يزورونه فباتوا عند قبره فرأى رجل منهم صاحب القبر في المنام وهو يقول له : هل لك أن تبيعنى بعيرك بنجيبي؟ وكان الميت قد خلف نجيباً، وكان للرائي بعير سمين، فقال: نعم، وباعه في النوم بعيره بنجيبه، فلما وقع بينهما عقد البيع عمد صاحب القبر إلى البعير، فنحره في النوم، فانتبه الرائي من نومه فوجد الدم يسيح من نحر بعيره، فقام وأتم نحره وقطع لحمه وطبخوه وأكلوا، ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق سائرون استقبلهم ركب، فتقدم منهم شاب فنادى هل فيكم فلان بن فلان؟ فقال صاحب العير : نعم ها أنا فلان بن فلان فقال : هل بعت من فلان الميت شيئاً؟ قال: نعم. بعته بعيري بنجيبه في النوم، فقال: هذا نجيبه، فخذه، وأنا ولده، وقد رأيته في النوم، وهو يقول : إن كنت ولدى فادفع نجيبي إلى فلان. فانظر إلى هذا الرجل الكريم كيف أكرم أضيافه بعد موته.
وروى عن الهيثم بن عدى أنه قال : تمارى ثلاثة نفر في الأجواد، فقال رجل : أسخى الناس في عصرنا هذا عبد الله ابن جعفر، فقال الآخر: أسخى الناس : قيس بن سعد بن عبادة، فقال الآخر : بل أسخى الناس اليوم عرابة الأوسى فتنازعوا بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: لقد أفرطتم في الكلام، فليمض كل واحد منكم إلى صاحبه يسأله حتى ننظر بما يعود، فنحكم على العيان. فقام صاحب ابن جعفر فوافاه، وقد وضع رجله في ركاب راحلته يريد ضيعة له، فقال الرجل: يا ابن عم رسول الله ﷺ ابن سبيل منقطع به قال: فأخرج رجله، وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة، وكان فيها مطارف خز وأربعة آلاف دينار. ومضى صاحب قیس، فوجده نائما فقالت له جارية
(1) سعيد بن العاص : هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموى القرشي صحابي من الأمراء والولاة الفاتحين، ربي في حجر عمر بن الخطاب، وولاة عثمان بن عفان الكوفة، وهو شاب، وهو أحد الذين كتبوا المصحف العثمان، وكان قوياً فيه شده سنيا، فصيحاً توفى سنة
(٥٩هـ – ٦٧٩م).
۱۸۸
قيس: ما حاجتك ؟ فقال ابن سبيل و منقطع به فقالت له الجارية حاجتك أهون من إيقاظه هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس اليوم غيرها، وامض إلى معاطن الإبل، فخذ راحلة من رواحله، وما يصلحها، وعبداً، وامض لشأنك، قيل: إن قيسا لما انتبه أخبرته الجارية بما صنعت، فأعتقها، ولو لم تعلم أن ذلك يرضيه ما جسرت أن تفعله،
فخلق خدم الرجل مقتبس من خلقه، قال بعض الشعراء:
وإذا اختبرت ود صديق
فاختبر وده من الغلمان
ومضى صاحب عرابة، فوجده قد خرج من منزله يريد الصلاة، فقال: يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به. وكان معه عبدان، فصفق بيده اليمنى على اليسرى، وقال: أواه أواه، والله ما أصبح ولا أمسى الليلة عند عرابة شيء، ولا تركت له الحقوق مالاً، ولكن خذ هذين العبدين، فقال الرجل: والله ما كنت بالذي يسلبك عبديك، فقال: إن أخذتهما، وإلا
فهما حران لوجه الله تعالى، فإن شئت فأعتق، فأخذ الرجل العبدين ومضى ثم اجتمعوا وذكروا قصة كل واحد فحكموا العرابة لأنه أعطى على جهد. قيل: إن شاعراً قصد خالد بن يزيد، فأنشده شعراً يقول فيه :
سألت الندى والجود حران انتما
فقلت ومن مولا كما فتطاولا
فقالا يقيناً إننا لعبيد
إلى وقالا خالد ويزيد
فقال: ياغلام أعطه مائة ألف درهم، وقل له : إن ردتنا ردناك فأنشد يقول :
كريم كريم الأمهات مهذب
تدفق بمناء الندى وشــــــــــــــــــــ الله
هو البحر من أي الجهات أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
جواد بسيط الكف حتى لو أنه
دعاها لقبض لم تجبه أنامله
فقال يا غلام : أعطه مائة ألف درهم وقل له : إن زدتنا ردناك ، فقال : حسب الأمير ما سمع، وحسبى ما أخذت وانصرف .
وأما الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية فهو حاتم بن عبد الله الطائي (۱)، وهرم بن سنان، وخالد بن عبيد الله، وكعب بن أمامة الأيادي و ضرب المثل بحاتم وكعب، وحاتم أشهرهما، فأما كعب فجاد بنفسه، وآثر رفيقيه بالماء في المفارة، ومات عطشاً، وليس له خبر مشهور وأما خالد بن عبيد الله، فإنه جاء إليه بعض الشعراء ورجله في الركاب يريد الغزو، فقال له : إني قلت فيك بيتين من الشعر، فقال: في مثل هذا الحال؟ قال: نعم، فقال: هاتهما، فأنشده
يقول :
يا واحد العرب الذي
لو كان مثلك آخر
ما في الأنام له نظير
ما كان في الدنيا فقير
فقال : يا غلام أعطه عشرين ألف دينار، فأخذها وانصرف. وأما حاتم، فأخباره كثيرة، وآثاره في الجود شهيرة،
ويكنى أبا صفانة وأبا عدى، وكان يسير في قومه بالمرباع والمرباع ربع الغنيمة، وكان ولده عدى يعادي النبي ﷺ، فبعث
النبي عليا إلى طبي، فهرب عدى بأهله وولده ولحق بالشام، وخلف أخته سفانة، فأسرتها خيل رسول الله ﷺ، فلما أتى بها إلى النبي ﷺ قالت: يا محمد هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلى عنى، ولا تشمت بي أحياء
العرب، فإن أبي كان سيد قومه يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمى الذمار، ويفرج عن المكروب
(۱) حاتم الطائي: هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القسطاني، أبو عدى فارس شاعر جواد جاهلی یضرب به المثل في الجود، كان من أهل محمد مات في عوارض جيل في بلاد طيء) سنة (٤٦) في هـ – (٥٧٨م شعره كثير ضاع معظمه وبقى ديوان صغير.
۱۸۹
ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي، فقال لها النبي : يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وقال فيها: ارحموا عزيز قوم ذل وغنيا افتقر وعالماً ضاع بين جهال . فأطلقها ومن عليها، فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها، وقال لأصحابه : اسمعوا وعوا فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لتيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سبباً في ردها عليه. فلما أطلقها النبي ﷺ رجعت إلى قومها، فأنت أخاها عدياً وهو بدومة الجندل، فقالت له يا أخي انت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله، فإني قد رأيت هدياً ورأياً سيغلب أهل الغلبة رأيت خصالاً تعجبني رأيته يحب الفقير، ويفك الاسير ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه وإني أرى أن تلحق به، فإن يك نبيا فللابق فضله، وإن يك ملكاً فلن
نذل في عز اليمن .
فقدم عدى إلى النبي ﷺ فألقى له وسادة محشوة ليفاً، وجلس النبي ﷺ على الأرض، فأسلم عدي بن حاتم وأسلمت أخته سفانة بنت حاتم المتقدم ذكرها، وكانت من أجود نساء العرب، وكان أبوها يعطيها الضريبة من إبله فتهبها وتعطيها الناس فقال لها أبوها : يابنية إن الكريمين إذا اجتمعا في المال أتلفاء، فإما أن أعطى وتمسكي، وإما أن أمسك وتعطى، فإنه لا يبقى على هذا شيء، فقالت له : منك تعلمت مكارم الأخلاق. قال ابن الأعرابي : كان حاتم الطائي من شعراء الجاهلية، وكان جواداً يشبه جوده شعره ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفراً إذا قاتل غلب، وإذا سئل وهب، وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق، وكان إذا أهل رجب الذي كانت تعظمه مضر في الجاهلية نحر كل يوم عشراً من الإبل وأطعم الناس، واجتمعوا إليه، وكان قد تزوج ماوية بنت عفير، وكانت تلومه على إتلاف المال، فلا يلتفت لقولها. وكان لها ابن عم يقال له مالك، فقال لها يوماً ما تصنعين بحاتم، فو الله لئن وجد مالاً
ليتلقنه، وإن لم يجد ليتكلفن ولئن مات ليتركن أولاداً عالة على قومك. فقالت ماوية : صدقت إنه كذلك .
وكانت النساء يطلقن الرجال في الجاهلية وكان طلاقهن أن يكن في بيوت من شعر، فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب، وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق، وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام، وإن كان قبل الشام حولته إلى اليمن، فإذا رأى الرجل ذلك علم أنها طلقته، فلم يأتها، ثم قال ابن عمها : طلقي حاتماً وأنا أتزوجك، وأنا خير لك منه، وأكثر مالاً، وأنا أمسك عليك، وعلى ولدك. فلم يزل بها حتى طلقته، فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال حاتم لولده يا عدى ما ترى ما فعلت أمك؟ فقال: قد رأيت ذلك. قال: فأخذ ابنه وهبط بطن واد، فنزل فيه، فجاء قوم، فنزلوا على باب الخباء كما كان ينزلون، وكان عدتهم خمسين فارساً، فضاقت بهم ماوية ذرعاً وقالت الجاريتها : اذهبي إلى ابن عمى مالك، وقولي له: إن أضيافاً لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلاً، فأرسل إلينا بشيء نقريهم ولبنا نسقيهم، وقالت لها انظرى إلى جبينه وفمه، فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن ضرب بحليته على زوره ولطم رأسه فاقبلي ودعيه. فلما أنته وجدته متوسداً وطباً من لبن فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له : إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم فلطم رأسه بيده و ضرب بحليته، وقال: اقرئيها السلام وقولي لها : هذا الذي أمرتك أن تطلقى حاتماً لأجله، وما عندى لبن يكفى أضياف حاتم فرجعت الجارية، فأخبرتها بما رأت وبما قال لها، فقالت لها: اذهبي إلى حاتم وقولي له : إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فأرسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم، فأتت الجارية حاتماً، فصاحت به فقال لبيك قريباً دعوت فأخبرته بما جاءت بسببه، فقال لها : حبا وكرامة، ثم قام إلى الإبل، فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء، ثم ضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح : هذا الذي طلقتك بسببه. نترك أولادنا وليس لهم شيء، فقال لها : ويحك يا ماوية الذي خلقهم وخلق الخلق متكفل بأرزاقهم. وكان إذا اشتد البرد وغلب الشتاء أمر غلمانه بنار فيوقدونها في بقاع الأرض لينظر إليها من ضل عن الطريق ليلاً، فيقصدها، ولم يكن حاتم يمسك شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجود بهما، ثم جاد بفرسه
في سنة مجدبة .
حكى أن ملكان ابن أخي ماوية قال : قلت لها يوماً: يا عمة حديثني ببعض عجائب حاتم وبعض مكارم أخلاقه فقالت: يا ابن أخي أعجب ما رأيت منه أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف، وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا، فأخذت سفانة، وأخذ عدياً، وجعلنا نعللهما حتى ناما، فأقبل على يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام، فرفقت به لما به من الجوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي: أنت؟ فلم أجبه، فسكت ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه، فإذا امرأة فقال : ما هذا؟ فقالت: يا أبا عدى أتيتك من عند صبية يتعاوون كالكلاب أو كالذئاب جوعاً، فقال لها : أحضرى صبيانك، فو الله لأشبعتهم، فقامت سريعة لأولادها، فرفعت رأسي وقلت له : يا حاتم، بما تشبع أطفالها، فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقال: والله لأشبعنك وأشبعن صبيانك وصبيانها، فلما جاءت المرأة نهض قائماً، وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه، فذبحه، ثم أجج ناراً ودفع إليها الشفرة، وقال: قطعي واشوى وكلى وأطعمى صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، فأيقظت أولادى وأكلت وأطعمتهم، فقال: والله إن هذا نهر
اللؤم تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم، ثم أتى الحى بيتاً بيتاً يقول لهم انهضوا النار، فاجتمعوا حول الفرس، وتقنع حاتم بكسائه وجلس ناحية، فوالله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر، ولا
والله ما ذاقها حاتم، وإنه لأشدهم جوعاً، وأخباره كثيرة مشهورة ومن شعره:
أماوى إن المال غاد ورائح وقد علم الأقوام لو أن حاتماً
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أراد ثراء المال كان له رفر
وأغار قوم على طبيء، فركب حاتم فرصه وأخذ رمحه ونادي في جيشه وأهل عشيرته، ولقى القوم، فهزمومهم
وتبعهم، فقال له كبيرهم يا حاتم هب لي رمحك، فرمى به إليه، فقيل لحاتم عرضت نفسك للهلاك، ولو عطف عليك لقتلك. فقال : قد علمت ذلك، ولكن ما جواب من يقول هب لي؟ ولما مات عظم على طبيء موته، فادعى أخوه أنه يخلفه، فقالت له أمه هيهات شتان والله ما بين خلفتيكما
وضعته فبقى والله سبعة أيام لا يرضع حتى القمت إحدى ثدى طفلاً من الجيران، وكنت أنت ترضع ثدياً ويدك على الآخر، فأتى لك ذلك. قال الشاعر :
يعيش الندى ما عاش حاتم طيىء
وإن مات قامت للسخاء ماتم
وكانت العرب تسمى الكلب داعي الضمير، ومتمم الغم، ومشيد الذكر لما يجلب بمن الأضياف بنباحه والضمير : الغريب، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح، ولم تشب النيران فرقوا الكلاب حوالى الحي وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنيح، فتهدى الضلال وتأتي الأضياف على نباحها. والحكايات في ذكر الأجواد والكرماء والاسخياء وأهل المعروف وما كانوا عليه
من السخاء والكرم أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. ففى مثل هذه المناقب فليتنافس المتنافسون والمثلها فليعمل العاملون فإن فيها عز الدنيا وشرف الآخرة، وحسن الصيت وخلود جميل الذكر، فإنا لم نجد
شيئاً يبقى على ممر الدهر إلا الذكر حسناً كان أو قبيحاً. وقد قال الشاعر:
جميل الذكر فالدنيا حديث
ولا شيء يدوم فكن حديثاً
فانتهز فرصة العمر ومساعدة الدنيا ونفوذ الأمر وقدم لنفسك كما قدموا، تذكر بالصالحات كما ذكروا، وأدخر نفسك
في القيامة كما ادخروا، واعلم أن المأكول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدو، فاختر أي الثلاث شئت.