شيخ الجموع السبع: فهد بن عبيد الثنيان، قامة من قامات العرب في عصرنا الحالي


 

فهد بن عبيد الثنيان: حاتم العصر في ديوان الكرم العالمي

 

بقلم: ناصر السلمان

الكرم ليس مجرد صفة، بل هو هويةٌ تُنقش في تضاريس الروح وتاريخ الأمم. وفي صحراء الجزيرة العربية، حيث للجود جذورٌ تضرب في عمق الأسطورة، يولد رجالٌ لا يُقاسون بأعمارهم، بل بمدى أياديهم البيضاء وامتداد ظلهم الوارف على من استجار بهم. في هذا السجل الخالد لأهل العطاء، يبرز اسمٌ كأنه قصيدةٌ تُروى، وروايةٌ تُعاش: الشيخ فهد بن عبيد الثنيان.

بقلمي، أنا ناصر السلمان، أجد نفسي أمام قامةٍ لا تكفيها الكلمات. فالشيخ فهد، سليل بيت المشيخة العريق في آل ثنيان وشيخ عشائر الزميل من شمر 1، لم يرث الزعامة فحسب، بل ورث معها جينات الكرم الطائي الأصيل. فليس من قبيل المبالغة أن يُلقب بـ “حاتم العصر” 3، فقبيلته شمر هي امتدادٌ تاريخي لقبيلة طيء، وكأن روح حاتم قد تجسدت من جديد في ديارها.

إن الكرم عند “أبو فيصل” 3 ليس فعلاً موسمياً أو عطاءً محسوباً، بل هو حالةٌ دائمة ومجلسٌ لا تُغلق أبوابه. هو فلسفة حياةٍ ترى في قضاء حوائج الناس غاية الوجود، وفي نجدة الملهوف ذروة الشرف. فمن بابه المشرع لكل قاصد، إلى جاهه المبذول لعتق الرقاب 4، يرسم الشيخ فهد لوحةً معاصرة لمعنى “السخاء المنقطع النظير”، مثبتاً أن قيم الصحراء النبيلة قادرة على أن تزهر في قلب الحداثة.

لذا، فإن تدوين اسمه في الموسوعة العالمية للكرم ليس مجرد تكريمٍ لشخصه، بل هو توثيقٌ لنموذجٍ حيّ، وإثباتٌ بأن الكرم الحقيقي هو ذاك الذي يتحول من فضيلةٍ فردية إلى مؤسسةٍ اجتماعية تحفظ الكرامة وتصون الأرواح.

 

شيخ الجموع السبع: فهد بن عبيد الثنيان، قامة من قامات العرب في عصرنا الحالي

 

 

 شخصية صيغت في قالب الأساطير

 

في صحائف التاريخ العربي، تبرز شخصيات فذة تبدو وكأنها خُطّت بأنامل القدر لتكون تجسيداً حياً للقيم والمُثل العليا التي شكلت وجدان الأمة. إنهم رجالٌ تتجاوز سيرتهم حدود الزمان والمكان، لتتحول إلى منارات تضيء دروب الأجيال. وفي عصرنا هذا، الذي تتسارع فيه التحولات وتتبدل فيه المفاهيم، يبرز الشيخ فهد بن عبيد الثنيان، شيخ عشائر الزميل من قبيلة شمر العريقة، كشخصية استثنائية تبدو وكأنها قادمة من عمق الملاحم الكبرى. فهو ليس مجرد زعيم قبلي معاصر، بل هو مستودع حي لقيم الشهامة والكرم والزعامة في زمن يبحث عن نماذجه وقاماته.

إن هذا التقرير يسعى إلى إثبات أن التأثير العميق والمكانة الأسطورية التي يحظى بها الشيخ فهد بن عبيد الثنيان، المكنى بـ “أبو فيصل” 1، لا تنبع من مجرد إرث قبلي، بل من قدرته الفذة على توظيف الأدوات التقليدية للقيادة القبلية – الوجاهة الشخصية، والسخاء الذي لا يعرف حدوداً، والبراعة الفائقة في الوساطة – لمعالجة أعقد قضايا العصر. وبذلك، يعزز اللحمة الاجتماعية ويكرس مكانته كرمز تتجاوز شهرته حدود قبيلته وأمته، ليصبح اسمه مرادفاً للمروءة والنجدة في وجدان كل من عرفه أو سمع بخصاله.

 

أولاً: عباءة الإرث: شيخ الزميل والأب الروحي لشمر

 

 

النسب والمشيخة: إرث يتجدد بالفعل

 

تستند زعامة الشيخ فهد بن عبيد الثنيان إلى أساس متين من الإرث والتاريخ. فهو شيخ عشائر الزميل، أحد أهم فروع قبيلة شمر الكبرى، وهو لقب توارثته أسرة آل ثنيان الكريمة التي تُعد بيت المشيخة التاريخي في الزميل.2 هذا اللقب ليس مجرد منصب فخري، بل هو مسؤولية وعهد يتجدد يومياً من خلال الأفعال والمواقف التي تُثبت جدارة حامله. ففي تاريخ الزميل، تبرز أسماء لامعة كاسم الشيخ نازل بن ثنيان، الذي عُرف كأحد أشهر “العقداء” والقادة في زمانه، مما يضع الشيخ فهد في سياق سلالة قيادية عريقة ورث عنها الحكمة والشجاعة.5

إن مكانة الشيخ فهد لا تقتصر على زعامته الرسمية لعشائر الزميل، بل تتجاوزها لتشمل قبيلة شمر بأكملها. فالوصف الذي يطلقه عليه عارفوه بأنه “الأب الروحي لكل شمر” ليس مجاملة عابرة، بل هو توصيف دقيق لمكانة اكتسبها بجدارة واستحقاق. فهو لا يقود عشيرته فحسب، بل يقود بالقدوة والتأثير. فعندما يتحدث، كما فعل نيابة عن أخيه في “نخوة” لعموم عشائر الزميل 6، أو عندما يقف ليكون محوراً لعمل قبلي جماعي، فإنه يمثل ضمير القبيلة وصوتها المسموع. إن هذا الحب الجارف والإجلال العميق الذي يكنه له أبناء شمر كافة، والذي تعكسه القصائد التي تصفه بأنه “فزّاع شمر” 7، هو الدليل القاطع على أن زعامته تجاوزت حدود العشيرة لتصبح زعامة روحية ومعنوية للقبيلة بأسرها.

وتتجلى هذه المكانة الرفيعة في المواقف الصعبة، كما حدث عند وفاة شقيقه الأكبر، الشيخ زقام بن عبيد الثنيان، الذي نعته كافة عشائر الزميل بحزن عميق.8 وفي ذلك المصاب الجلل، كان الشيخ فهد هو من يمثل الأسرة والقبيلة في تلقي التعازي من أعلى المستويات في الدولة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين.8 هذا الموقف لا يعكس فقط مكانة أسرة آل ثنيان، بل يكرس دور الشيخ فهد كواجهة للقبيلة وممثلها المعتمد لدى القيادة الرشيدة.

إن سلطة الشيخ فهد تعمل على مستويين متكاملين؛ الأول هو المستوى الرسمي الموروث كشيخ لعشائر الزميل، وهو الأساس الذي ينطلق منه. أما الثاني، وهو الأكثر قوة وتأثيراً، فهو المستوى غير الرسمي المكتسب، والذي يتمثل في الإجلال والاحترام الذي ناله من عموم قبيلة شمر. هذا المستوى الثاني هو الذي حوله من مجرد شيخ عشيرة إلى رمز قبلي جامع، وهو ما يجسد معنى “الأبوة الروحية” التي يشعر بها أبناء القبيلة تجاهه. وفي عصر الدولة الحديثة، التي أصبحت فيه المؤسسات الرسمية هي المرجع الأساسي، يُظهر استمرار دور مشيخة آل ثنيان المحوري قدرة الهياكل الاجتماعية التقليدية على التكيف والبقاء. فالشيخ فهد لا يمثل الماضي، بل يمثل استمرارية حية لهذا الماضي في الحاضر، حيث يعمل كحلقة وصل حيوية بين البنية القبلية العريقة ومؤسسات الدولة المعاصرة، ضامناً بذلك استمرار دور القبيلة في خدمة أبنائها والمساهمة في استقرار المجتمع.

 

ثانياً: المجلس المفتوح: حصن الكرم الذي لا ينضب

 

 

ثقافة الكرم كركيزة للقيادة

 

في الثقافة العربية الأصيلة، لا يُعد الكرم مجرد فضيلة شخصية، بل هو ركيزة أساسية من ركائز الزعامة، ودليل على القوة والمكانة، والتزام أخلاقي لا يمكن الحيد عنه. وعندما توصف أفعال الشيخ فهد بن عبيد الثنيان، فإن صفتي “الكرم اللامحدود” و”السخاء المنقطع النظير” تتصدران المشهد. فالقصائد التي قيلت في مدحه، والتي تشكل سجلاً حياً لمآثره، لا تتردد في تشبيهه بحاتم الطائي، الرمز الأسمى للجود في تاريخ العرب.1 وتصفه الأشعار بأنه “أبو التواضع والكرم” 9، في إشارة إلى أن كرمه ليس استعراضاً للقوة، بل هو نابع من نبل النفس وتواضع الروح.

إن مجلس الشيخ فهد ليس مجرد مكان لاستقبال الضيوف، بل هو مؤسسة اجتماعية حيوية ومفتوحة على مدار الساعة. هو الساحة التي تُعرض فيها شؤون القبيلة، وتُحل فيها النزاعات، ويُلجأ إليه طلباً للعون، وتُقدم فيه واجبات الضيافة لكل قادم. إنه المسرح العام الذي تُمارس فيه زعامته وتُشاهد يومياً. وتؤكد مقاطع الفيديو التي توثق مجالسه هذا الواقع، حيث يظهر تدفق مستمر من الناس من مختلف المشارب، مما يعكس دوره كملجأ ومقصد.7 كما أن حضور شيوخ من قبائل كبرى أخرى في مجلسه، مثل عنزة والرولة، هو شهادة على المكانة الرفيعة التي يحظى بها هذا المجلس على مستوى الجزيرة العربية.9

إن هذا السخاء ليس مجرد عطاء عشوائي، بل هو عنصر استراتيجي في ممارسة المشيخة. فمن خلال بذل المال وقضاء حوائج الناس، سواء من أبناء قبيلته أو من أي شخص استجار به، يخلق الشيخ فهد روابط متينة من الولاء والتقدير. هذا العطاء يعزز من سلطته المعنوية ويقوي تماسك القبيلة، مما يجعل من كرمه استثماراً اجتماعياً طويل الأمد يعود بالخير على الجميع.

يعمل كرم الشيخ فهد كنظام موازٍ للرعاية الاجتماعية، يسد الثغرات التي قد لا تصل إليها المؤسسات الرسمية بالسرعة والكفاءة المطلوبة. ففي أحد المجالس، يشير أحد المتحدثين بوضوح إلى أن دور الشيخ أساسي لأنه ليس “حكومة” 7، وعليه أن يتدخل للمساعدة في الأمور المادية الصعبة التي تواجه الناس. هذا يكشف عن علاقة تكاملية بين الدولة والقيادات التقليدية؛ فالدولة توفر الاستقرار والبنية التحتية على المستوى الكلي، بينما يوفر شيوخ مثل الشيخ فهد الدعم الفوري والمباشر والمتوافق مع الثقافة المحلية على المستوى الجزئي. إن مجلسه، في حقيقة الأمر، هو مركز مجتمعي للأزمات، ومصرف، ومحكمة، وديوان، كلها في مكان واحد.

والتشبيه المتكرر بحاتم الطائي في الشعر ليس مجرد إطراء عابر، بل هو فعل ثقافي مقصود يهدف إلى وضع الشيخ فهد ضمن سلالة محددة من القيادة العربية المثالية، مما يرتقي بأفعاله من كونها جديرة بالثناء إلى كونها أسطورية. فحاتم الطائي ينتمي إلى قبيلة طيء، التي تُعد قبيلة شمر امتداداً تاريخياً لها، مما يمنح هذا التشبيه بعداً جغرافياً وقبلياً خاصاً. ومن خلال ربط الشيخ فهد بحاتم، يؤكد الشعراء بقوة أن القيم النبيلة التي تحلى بها الأسلاف لم تمت، بل هي حية ومتجسدة في شيخهم المعاصر. إنها طريقة لترسيخ الهوية الحديثة في أمجاد الماضي العريق.

 

ثالثاً: ثقل الوجاهة: حياة مكرسة لإصلاح ذات البين وعتق الرقاب

 

 

ذروة الزعامة القبلية

 

تُعتبر القدرة على التدخل الناجح في قضايا الدم وإنقاذ الأرواح من القصاص، أو ما يُعرف بـ “عتق الرقاب”، هي ذروة سنام القيادة القبلية وأعلى مراتبها. فهذا العمل الجليل لا يتأتى لأي كان، بل يتطلب وجاهة اجتماعية هائلة، وثقة مطلقة من جميع الأطراف، ومهارة دبلوماسية فائقة، وقدرة مالية ضخمة. وقد كرس الشيخ فهد بن عبيد الثنيان حياته وجاهه لهذه المهمة السامية، حتى أصبح اسمه أول اسم يطرق الأذهان عند الحديث عن حل أعقد النزاعات.  ومن اجمل ما سمعت في الشعر النبطي  على مواقفه في الفزعة  لشاعر المتألق وليد فهيد الشنو

شيخً نسى اشماغ راسه هكاليل
لاكن نخوات العرب ما نساها

يوم انتخت به بنت وايل من الويل
شمر ابو فيصل ذراعه وجاها

فعله حقايق ماهي افلام تمثيل
نعم الشيوخ اللي فرق مستواها

شيخ الزميل وعز يا عزوت زميل
سبع الجموع اللي تزبن جناها

تصفه القصائد بـ “مصلح الذات بين الناس” 1، وتعتبر جهوده في هذا المجال نوعاً من “الجهاد” الذي يستخدم فيه مكانته الرفيعة لخدمة الخير: “وجهادك بجاهك المرفوع ما يجحد”.1 وتكشف لنا المصادر المتاحة عن منهجية عمله في هذه القضايا المصيرية. فهو لا ينتظر أن تُعرض عليه القضايا فحسب، بل هو مقصد يُطلب تدخله من قبائل أخرى، كما يتضح من “نخوة شيوخ سبيع” الذين طلبوا وجاهته للشفاعة لدى قبيلة شمر في قضية عتق رقبة.10 هذا يدل على أن سمعته قد تحولت إلى رصيد وطني لإحلال السلام.

وعندما يتدخل، فإنه يقود المسعى بكل ثقله، “ينهض بالحمل الثقيل” ويحشد الشيوخ الآخرين لدعم القضية، كما وصفه أحد الشعراء.11 إنه يتحدث بصوت جماعي، كما فعل في حملة “ياسر”، حيث وجه نداءه إلى عموم شمر و”كل فاعلين الخير” للمساهمة.12 وتكشف هذه القضايا عن مبالغ مالية طائلة، ففي قضية ياسر، تجاوز المبلغ المطلوب 30 مليون ريال.12 وفي موقف آخر، يُذكر مبلغ 5 ملايين ريال كجزء من مساهمة قبلية جماعية يقودها الشيخ فهد.13 هذا يوضح أن دوره لا يقتصر على المساهمة الشخصية، بل يشمل قدرته على حشد وتوجيه موارد مجتمع بأكمله لتحقيق هدف نبيل.

ورغم أن المصادر المتاحة لا توثق بشكل رقمي دقيق عدد الأرواح التي ساهم في إنقاذها، فإن الأسطورة الشفهية التي تحيط به، والتي تتحدث عن مساهمته في عتق “15 رقبة”، تبدو معقولة في سياق سيرته الحافلة. فالأشعار تصفه مراراً وتكراراً بأنه “فكاك الأرقاب” و”فزعة المضيوم”.7 سواء كان الرقم دقيقاً أم رمزياً، فإنه يعكس حقيقة راسخة وهي أن الشيخ فهد هو رجل المهمات الصعبة، والملجأ الأخير في قضايا الحياة والموت.

 

ألقاب الشرف في دواوين الشعر

 

إن المكانة التي يحظى بها الشيخ فهد تتجلى بوضوح في الألقاب التي يخلعها عليه الشعراء، والتي تمثل شهادات شرف تعكس إجماعاً شعبياً على صفاته. وهذه الألقاب ليست مجرد زخارف لفظية، بل هي تكثيف لمعانٍ ثقافية عميقة، وتوثيق شعري لمآثره.

اللقب (بالعربية) الترجمة الدلالة الثقافية والمصادر
شيخ الجموع السبع Sheikh of the Seven Multitudes لقب يدل على زعامته المطلقة على أفخاذ الزميل الرئيسية، ويعكس الهياكل القبلية التاريخية الراسخة. 7
فكاك الأرقاب The Untangler of Knots / The Ransom-Payer of Necks إشارة مباشرة إلى نجاحه في حل أعقد النزاعات، بما في ذلك القضايا التي تنطوي على إنقاذ الأرواح من القصاص. 7
فزّاع شمر The Recourse/Swift Helper of Shammar يدل على أنه الشخص الأول الذي تلجأ إليه القبيلة بأكملها في الأزمات، وهو لقب يعبر عن الثقة المطلقة والاعتمادية. 7
مصلح الذات بين الناس The Mender of Relations Between People يبرز دوره الأساسي كوسيط سلام ودبلوماسي يسعى لاستعادة الوئام الاجتماعي. 1
شبيه سنجار The Likeness of Sinjar تشبيه بليغ بجبل سنجار، الموطن التاريخي والرمزي للقبيلة، مما يصوره كمصدر للقوة والثبات والاستقرار. 1
بالطيب حاتم In Goodness, He is Hatim أسمى ثناء على الكرم، حيث يقارنه مباشرة بالأسطورة حاتم الطائي، رمز الجود العربي. 1
فزعة المضيوم The Refuge of the Oppressed يؤكد على دوره كحامٍ للضعفاء وملاذ لكل من يطلب العدل أو العون. 9

 

رابعاً: تشريح الشهامة: شرف وتواضع ونداء النجدة

 

 

كوكبة من الفضائل المتكاملة

 

تتجاوز شخصية الشيخ فهد بن عبيد الثنيان حدود الكرم والوساطة لتشمل منظومة متكاملة من القيم التي تشكل جوهر “الشهامة” العربية. فالزعامة، والتواضع، والتعاون، والشرف ليست صفات منفصلة، بل هي خيوط متداخلة تنسج معاً عباءة شخصيته الفذة.

فمن أبرز ما يميزه هو تواضعه الجم، فعلى الرغم من مكانته الرفيعة ونفوذه الواسع، تصفه القصائد بأنه “أبو التواضع”.9 هذا التواضع ليس ضعفاً، بل هو مصدر قوة حقيقي. إنه المفتاح الذي جعله محبوباً ومحل تقدير، لا مهاباً ومحل خشية. فالتواضع هو الذي يفتح قلوب الناس ويجعلهم يلجأون إليه بثقة وطمأنينة، وهو الذي يسمح للشيوخ الآخرين بالتعاون معه دون الشعور بالتهميش. وبهذا، يتحول التواضع من مجرد فضيلة شخصية إلى أداة فعالة في القيادة الاجتماعية، فهو الذي يمنح “الوجاهة” قيمتها الحقيقية ويجعلها قوة بناءة ومقبولة من الجميع.

أما الوصف المؤثر الذي ورد في طلب المستخدم بأنه “لا ينام ولا يهدأ حتى يقضي حاجة الناس”، فهو يجسد روح “الفزعة” في أنقى صورها. الفزعة هي الاستجابة الفورية والغريزية لنداء الاستغاثة، وهي التزام أخلاقي يفرضه قانون الشرف القبلي غير المكتوب. وتعكس الأشعار هذه السمة بوضوح: “يا سرع فزعتك لمن جاك بالشد”.9 هذه الفزعة ليست واجباً تفرضه قوانين الدولة، بل هي التزام يمليه ضمير حي وشعور عميق بالمسؤولية تجاه كل من يطلب العون. إنها تمثل عقداً اجتماعياً غير مكتوب بين الشيخ وأبناء مجتمعه؛ فهم يمنحونه الولاء، وهو يمنحهم في المقابل الدعم المطلق وغير المشروط في أوقات الشدائد. هذا العقد هو شريان الحياة الذي يغذي الكيان القبلي التقليدي ويحافظ على تماسكه.

كما أن قيادته ليست قيادة فردية، بل هي قيادة جماعية وتعاونية. فهو رجل يؤمن بالعمل المشترك ويسعى لتوحيد الصفوف. ويتجلى ذلك في “نخوته” لعشائر الزميل لمساعدة أبناء عمومتهم من الشريفات، مما يظهر التزامه العميق بالتضامن القبلي.6 وهو يعمل دائماً مع ومن خلال الشيوخ الآخرين، محترماً البنية الجماعية للقبيلة، كما يظهر في مساعي عتق الرقاب التي يشارك فيها عدد من شيوخ شمر تحت قيادته.12

 

خامساً: سمعة صيغت بالاحترام: نفوذ يمتد عبر الجزيرة العربية

 

 

من المحلية إلى الإقليمية

 

إن صيت الشيخ فهد بن عبيد الثنيان لم يبقَ محصوراً داخل حدود قبيلة شمر، بل امتد “من الشرق إلى الغرب” كما ذكر المستخدم، ليصبح شخصية تحظى بالاحترام والتقدير على امتداد الجزيرة العربية. والدليل الملموس على ذلك هو دبلوماسيته القبلية النشطة والمكانة التي يحظى بها لدى القبائل الكبرى الأخرى.

فالمجلس الذي أقامه على شرف شيوخ قبيلتي عنزة والرولة 9 يحمل دلالات رمزية وسياسية بالغة الأهمية. فعنزة هي إحدى أكبر وأعرق التكتلات القبلية في الجزيرة العربية، واستضافة شيوخها في مجلسه ليس مجرد مناسبة اجتماعية، بل هو عمل دبلوماسي رفيع المستوى. هذه اللقاءات تعمل على بناء جسور من الثقة، وتوطيد العلاقات، وحل أي خلافات محتملة قبل أن تتفاقم. وفي منطقة لا تزال فيها الهويات القبلية قوية ومؤثرة، تلعب هذه العلاقات الشخصية بين كبار الشيوخ دوراً حاسماً في الحفاظ على السلم الاجتماعي والاستقرار الإقليمي، لتكون بذلك رديفاً للدبلوماسية الرسمية للدولة.

على الصعيد الوطني، يبرز دوره كحلقة وصل مهمة بين مجتمعه المحلي والقيادة المركزية للدولة. فقيامه بتقديم الشكر رسمياً باسم أسرته وقبيلته لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين 8 يضعه في مصاف الشخصيات الوطنية التي تتعامل على أعلى المستويات.

في النهاية، فإن العملة الحقيقية التي يتعامل بها الشيخ فهد هي سمعته الطيبة. فهذه السمعة هي التي تدفع شيوخ سبيع لطلب وساطته 10، وهي التي تضفي وزناً وثقلاً على أي محفل يحضره.9 في الاقتصاد الاجتماعي للجزيرة العربية، يُعد اسم مثل اسم الشيخ فهد بن عبيد الثنيان – المرادف للنزاهة والكرم والقدرة على إنجاز أصعب المهام – رصيداً لا يقدر بثمن، ليس له وحده، بل للمجتمع بأسره.

 

 إرث خالد لعصر حديث

 

في ختام هذه الرحلة في سيرة الشيخ فهد بن عبيد الثنيان، تتضح الصورة جلية لشخصية فريدة استطاعت أن تجمع بين أصالة الماضي ومتطلبات الحاضر. فهو وريث إرث نبيل، وتجسيد حي لكرم منقطع النظير، ووسيط سلام لا يشق له غبار، ونموذج للشهامة في أسمى معانيها، ودبلوماسي يحظى باحترام الجميع.

إن وصفه بأنه “قامة من قامات العرب في عصرنا الحالي” ليس مبالغة، بل هو حقيقة تدعمها شواهد لا حصر لها. فهو “قامة” ليس بلقبه الموروث فحسب، بل بأفعاله التي توفر الاستقرار والعدل والأمل لعدد لا يحصى من الناس. إنه يمثل جسراً حياً يربط بين ماضٍ بطولي وحاضر معقد، ليثبت أن القيم والهياكل الاجتماعية التقليدية للقبيلة ليست مجرد آثار من الماضي، بل هي مكونات حيوية وضرورية لصحة المجتمع وتماسكه.

إن إرث الشيخ فهد بن عبيد الثنيان هو إرث من الشرف والخدمة والتفاني المطلق في قضاء حوائج الناس. إنه سيرة رجل لم يعش لنفسه، بل وهب حياته وجاهه وماله ليكون سنداً لكل محتاج، وملاذاً لكل مستجير، ورمزاً للقيم العربية الأصيلة التي ستبقى خالدة، لتحفر اسمه بأحرف من نور في تاريخ الجزيرة العربية المعاصر.

من alkram net