بقلم: ناصر السلمان
الموسوعة العالمية للكرم
مقدمة: في حضرة شيخٍ لا يتكرر.. عبد العزيز المسلط بصمة التاريخ الخالدة
يُسطِّر التاريخ أسماء الرجال بحروفٍ من نور أو يطويها في غياهب النسيان، ولكن ثمة قاماتٍ استثنائية لا يملك التاريخ أمامها إلا أن يقف وقفة إجلال، فتتحول سيرتهم إلى مدرسةٍ للأجيال، وتغدو حكاياتهم مناراتٍ تُستضاء بها دروب المروءة. وفي سجل الخالدين الذين جسّدوا أنبل القيم الإنسانية، يبرز اسم الشيخ عبد العزيز المسلط، أمير قبيلة الجبور، ليس كشيخ قبيلة فحسب، بل كظاهرة إنسانية فريدة، ورجلٍ كانت حياته قصيدةً في الكرم والشجاعة والشموخ.
إن الحديث عن الشيخ عبد العزيز المسلط هو حديث عن الكرم في أسمى تجلياته وأوسع معانيه. فالكرم الذي نتناوله هنا ليس مجرد بسط يدٍ بالعطاء المادي، على الرغم من أنه بلغ فيه شأناً تجاوز حدود جزيرته العربية، بل هو كرم النفس الذي يتجلى في إباءٍ لا يلين أمام مغريات السلطة، وشجاعةٍ لا تهاب جبروت الطغاة، وحكمةٍ تزن الأمور بميزان الحق والعدل. هو كرم الروح الذي يفتح أبوابه ومجلسه وقلبه للمستجير والضيف والصديق، وكرم المبدأ الذي يدفعه لدعم قضايا أمته وكل أرض عربية نادت فكان هو أول المجيبين.
في زمنٍ عصفت به التحولات الكبرى، وتلاطمت فيه أمواج السياسة والاستعمار، وقف الشيخ عبد العزيز المسلط جبلاً راسخاً، يمثل الأصالة العربية في أنقى صورها. لقد كان حلقة وصل بين عراقة الماضي ومتطلبات الحاضر، فجمع بين هيبة شيوخ البادية وحنكة رجال الدولة، وبين صلابة الفارس وصبر الحكيم.
لذلك، فإن هذه السطور ليست مجرد توثيقٍ لسيرة رجل، بل هي محاولة متواضعة لقراءة فصلٍ مجيد من فصول “الموسوعة العالمية للكرم”، فصلٌ بطله قامة عربية استثنائية، ورجلٌ أكاد أجزم، كما قال من عرفوه، أنه “مثل البصمة، لا يتكرر أبداً”.
مقدمة: صدى أسطورة في زمن تضاءلت فيه الفضائل
في وصف رجل استعصى على النسيان، قيل عنه: “هو مثل البصمة، لا يتكرر أبداً” . بهذه الكلمات العميقة، لا يُستحضر الشيخ عبد العزيز المسلط كشخصية تاريخية فحسب، بل كتجسيد لمثالٍ عربي أصيل في القيادة، ذلك الرجل الذي “جمع مكارم الأخلاق كلها في زمن قلت فيه الأخلاق والمروءة” إن سيرته ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي شهادة على حقبة كاملة من التحولات العاصفة.
يسعى هذا التقرير إلى إثبات أن حياة الشيخ عبد العزيز المسلط تمثل حلقة وصل حاسمة في تاريخ العرب في القرن العشرين، حيث تصادمت القوانين العريقة للسيادة القبلية والشرف مع قوى الاستعمار والوطنية والدولة القومية الحديثة. قصته ليست قصة رجل واحد، بل هي قصة رؤية كاملة للعالم وهي تبحر في خضم قرن من التغيير العميق والعنيف في كثير من الأحيان.
ومن الضروري في مستهل هذا البحث التمييز بشكل قاطع بين موضوع هذه السيرة، الشيخ عبد العزيز المسلط (1911-1999)، شيخ مشايخ قبيلة الجبور، وشخصيات معاصرة أخرى تحمل أسماء مشابهة، مثل الأكاديمي والسياسي السوري الأمريكي الدكتور عبد العزيز دحام المسلط (المولود عام 1974).1 يقتصر هذا التقرير حصراً على الشخصية الأولى، والزعيم التاريخي الذي حفر اسمه في ذاكرة الملايين.
الجزء الأول: صياغة أمير – النسب والنشأة
إرث الجبور: نهر من التاريخ يمتد من قحطان إلى الجزيرة
تمتد جذور الشيخ عبد العزيز المسلط عميقاً في تربة التاريخ العربي، متصلة بنسب عريق لقبيلة الجبور التي تعود أصولها إلى عرب قحطان في شبه الجزيرة العربية. يتبع هذا النسب مساراً مهيباً ينحدر من حلف قبائل زبيد الكبير، مؤكداً على صلة القربى بالفارس والشاعر الأسطوري عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، وهي صلة كان الشيخ عبد العزيز نفسه يفخر بإعلانها أمام الرئيس جمال عبد الناصر. هذا الإرث يوضح الميراث الراسخ من البسالة والنبل الذي وُلد فيه.
تاريخياً، ارتبط اسم القبيلة بجدها الأعلى، السلطان جبر بن مكتوم، الذي لم يكن لقبه “سلطان” تشريفياً فحسب، بل كان دلالة على زعامته لائتلاف واسع من القبائل. كما أن ذكر “الدولة الجبرية” في المصادر التاريخية يقف شاهداً على قدرة القبيلة على التنظيم السياسي والحكم. إن فهم هذا العمق التاريخي ضروري لاستيعاب حجم المسؤولية والنفوذ الذي حمله شيخ مشايخها.
مدرسة في النبل: سيرة الشيخ عبد العزيز المسلط الإنسان
مقدمة: ما وراء المشيخة والسياسة: جوهر الإنسان
حين تُدوّن سير العظماء، غالباً ما تطغى سجلات المناصب السياسية وضجيج الأحداث الكبرى على الجوهر الإنساني الذي شكّل معدنهم الحقيقي. لكن في سيرة الشيخ عبد العزيز المسلط (1911-1999)، أمير قبيلة الجبور وشيخ مشايخها، فإن التوقف عند أدواره الرسمية هو إغفالٌ للفصل الأهم في حكايته. فخلف ألقاب المشيخة ومقاعد البرلمان السوري التي شغلها لسنوات 1، كان هناك رجلٌ بنى مجده الحقيقي على أركان المروءة والرحمة والتواضع والإيمان العميق. هذا التقرير هو محاولة لإعادة قراءة سيرته من منظور مختلف، منظور يرى في مواقفه الشخصية وقيمه الأخلاقية الإرث الأبقى والأكثر تأثيراً.
وُلد الشيخ عبد العزيز في الجزيرة الفراتية السورية عام 1911، في كنف والده الشيخ مسلط باشا الملحم، شيخ قبيلة الجبور في سوريا، ووالدته الشيخة ترفة العبد ربه من مشايخ الجبور في العراق، ما وضعه منذ نشأته في قلب كيان عشائري عريق يمتد عبر الحدود الوطنية الحديثة.1 ورغم أن حياته كانت حافلة بالمحطات السياسية، من تمثيله لقضاء الحسكة في مجلس النواب السوري منذ عام 1947 إلى عضويته في مجلس الأمة إبان الوحدة مع مصر 1، إلا أن بصمته الأخلاقية كانت أعمق أثراً. سيرته الإنسانية ليست مجرد حواشٍ على متن تاريخه السياسي، بل هي المتن نفسه، وهي الشهادة على أن عظمة الرجال لا تُقاس بالمناصب التي شغلوها، بل بالقلوب التي لمسوها، والنفوس التي جبروها، والمبادئ التي عاشوا من أجلها وماتوا عليها.
سوف نستكشف في هذا التقرير ثلاثة أركان أساسية شكّلت شخصية الشيخ عبد العزيز المسلط: نخوته الفطرية التي جعلت منه ملاذاً للملهوف، وعزة نفسه التي كانت درساً في الكرامة والاعتماد على الذات، وإيمانه الراسخ الذي كان بوصلته ومصدر قوته. من خلال هذه المحاور، سيتضح أن الشيخ عبد العزيز لم يكن مجرد زعيم قبلي، بل كان مدرسة متكاملة في النبل، وقاموساً في المروءة، وأسطورة في التواضع.
الفصل الأول: “زبن الونيه”: حين تكون النخوة قانوناً والنجدة غريزة
في التراث العربي، لا تُكتسب الألقاب بالوراثة فحسب، بل تُنتزع بالأفعال التي تترسخ في الذاكرة الجمعية. ولعل اللقب الذي التصق بالشيخ عبد العزيز المسلط أكثر من أي لقب آخر هو “زبن الونيه”، وهو لقب يختزل فلسفة حياته بأكملها. لم يكن هذا اللقب مجرد كنية، بل كان تعريفاً دقيقاً لوظيفته الاجتماعية ودوره الأخلاقي: الملاذ الأخير لمن تقطعت به السبل. لفهم عمق هذا اللقب، لا بد من تفكيكه وتحليل المواقف التي أدت إلى ولادته، وعلى رأسها قصته الخالدة مع السجين العكيدي.
1.1. السردية المؤسِّسة: استغاثة السجين العكيدي
تُروى هذه القصة في مجالس الجزيرة الفراتية بتواتر يمنحها قوة الأسطورة، وهي تجسد معنى “الاستجارة” بالشيخ عبد العزيز في أبهى صورها. تبدأ الحكاية في سجن الحسكة، حيث كان يقبع رجل من قبيلة العقيدات، وهي قبيلة بينها وبين قبيلة الجبور ثارات قديمة، وقد صدر بحقه حكم بالإعدام.4 وفي لحظة يأس، رأى السجين العكيدي بصيص أمل أخير. انتهز فرصة إطلاق سراح سجين من قبيلة الجبور، وحمّله رسالة لم تكن مجرد طلب، بل كانت استغاثة شعرية، قصيدة استنجاد موجهة مباشرة إلى الشيخ عبد العزيز المسلط.6
في الثقافة البدوية، لا شيء يفوق في قدسيته وقوته الإلزامية “القصيدة الدخيلة” أو طلب النجدة شعراً. إنها ليست مجرد كلمات، بل هي تفعيل لأقدس قوانين الشرف، وهي تضع كرامة المُستجار به على المحك. وصل الرسول الجبوري إلى مجلس الشيخ عبد العزيز في الصباح الباكر، وكان الشيخ يهم بتناول طعام فطوره. وعندما قُرئت عليه القصيدة التي تضمنت بيت الاستغاثة الشهير “وين ابو حواس وين زبن الونيه.. اني دخيلك ثم دخيل العيالي” 7، كانت استجابة الشيخ فورية وحاسمة.
لم يتردد، ولم يجرِ حسابات سياسية، ولم يفكر في العداوة القديمة بين القبيلتين. قام من فوره، وقبل أن يغسل يديه للفطور، أطلق قسمه المدوّي الذي أصبح جزءاً من الحكاية: “أنا أخو شاهة، حرام عليّ أن أذوق الفطور إن لم يفطر معي”.5 هذا القسم ليس مجرد وعد، بل هو عقد شرف علني يربط مصيره بمصير السجين. لقد حوّل بكلماته قضية رجل غريب لا يعرفه إلى قضية شخصية تمس صميم كرامته.
انطلق الشيخ على الفور بسيارته إلى الحسكة، تاركاً طعامه على المائدة. تُظهر الروايات المتعددة للقصة تدرجه المنطقي في سلم السلطة: بدأ بمدير السجن الذي أوضح أنه لا يملك صلاحية إطلاق سراح محكوم بالإعدام، ثم إلى النائب العام الذي تردد خوفاً من المسؤولية، وأخيراً، عبر اتصال هاتفي مباشر، وصل إلى وزير العدل في دمشق.4 في هذا الموقف، وضع الشيخ كل ثقله الشخصي ومكانته كضمانة (كفالة) لإطلاق سراح الرجل. لم تكن حجته قانونية بقدر ما كانت أخلاقية، فقد فهم المسؤولون أن رفض طلبه يعني إهانة لا يمكن تداركها لشيخ بقامته. وبالفعل، أُطلق سراح السجين بكفالة الشيخ، الذي أخذه إلى بيته، حيث كانت مائدة الفطور لا تزال في انتظارهما. أوفى الشيخ بقسمه، وأفطر السجين معه، ثم ألبسه ثوباً جديداً وأعطاه من المال ما يعينه على العودة إلى أهله.5 هذه السلسلة من الأفعال—القسم، والتحرك الفوري، والمواجهة المباشرة مع السلطة، والوفاء بالوعد—هي التي رسخت صورته كملجأ لا يرد من يستجير به.
1.2. تفكيك اللقب: معنى “زبن الونيه”
لفهم عمق شخصية الشيخ عبد العزيز، لا يكفي سرد القصة، بل يجب الغوص في دلالات لقبه. إن لقب “زبن الونيه” ليس مجرد كنية عابرة، بل هو توصيف دقيق لوظيفة اجتماعية ورمزية كان يمثلها، وهو لقب لا يُمنح إلا لمن أثبت جدارته به عبر مواقف استثنائية.
كلمة “زبن” في اللغة العربية الفصحى واللهجات البدوية تحمل معنى الدفع والمنع والحماية.8 الزَّبْنُ هو دفع الشيء عن الشيء، كأن تدفع الناقة ولدها عن ضرعها لتحميه.10 ومن هذا المعنى المادي، اشتُق المعنى المجازي للملجأ والملاذ الذي يمنع الخطر عن المستجير به. فالزبن ليس مجرد مأوى سلبي، بل هو حماية فاعلة وقوة دافعة ترد العدوان.
أما كلمة “الونية”، فتفسيرها يكشف عن طبقة أعمق من المعنى. في المعاجم اللغوية، قد تعني “الونية” الدّرة أو اللؤلؤة، أو العقد المصنوع منها.11 هذا المعنى الحرفي يبدو غير كافٍ لتفسير اللقب. لكن المفتاح يكمن في استخدامها ضمن الشعر النبطي وتراث الفروسية. فقد عُرف الملك عبد العزيز آل سعود بلقب “حمّاي الونية” 14، ما يؤكد أن المصطلح يحمل دلالة رمزية خاصة في الثقافة البدوية. في هذا السياق، ترمز “الونية” إلى كل ما هو ثمين ونفيس وضعيف في آن واحد، كل ما يحتاج إلى حماية استثنائية لندرته أو هشاشته. يمكن أن تكون امرأة، أو يتيماً، أو غريباً، أو كما في حالتنا، رجلاً وحيداً أعزل يواجه الموت.
عند تركيب المعنيين معاً، يتضح أن “زبن الونيه” يعني “الملاذ الحصين والدرع المنيع لكل كائن ثمين ومهدد”. إنه لقب يصف زعيماً لا تقتصر حمايته على أفراد قبيلته الأقوياء، بل تمتد لتشمل أضعف الخلق وأكثرهم حاجة، حتى لو كانوا من خصومه. إنه اعتراف مجتمعي بأن هذا الرجل هو خط الدفاع الأخير لمن لا مدافع له.
1.3. من النجدة إلى المصالحة: جسر السلام
لم تكن عظمة الشيخ عبد العزيز تكمن في قدرته على نجدة الملهوف فحسب، بل في حكمته التي مكنته من تحويل فعل الرحمة الفردي إلى مشروع مصالحة جماعي. فالقصة لم تنتهِ عند عودة السجين العكيدي إلى أهله، بل بدأت فصولها الأهم بعد ذلك. لقد أدرك الشيخ أن هذا الموقف قد خلق فرصة تاريخية لا تعوض لإنهاء ثأر قديم بين قبيلتي الجبور والعقيدات.
كانت قبيلة العقيدات، كما تشير الروايات، مدينة بدم “ستة رجال” لقبيلة الجبور.5 هذا الدين الدموي كان يعني أن دورة العنف والانتقام مرشحة للاستمرار لأجيال. لكن بإنقاذه لابنهم من حبل المشنقة، وضع الشيخ عبد العزيز قبيلة العقيدات بأكملها تحت دين شرف هائل يفوق أي دين دموي. لقد قدم لهم حياة، وهي أثمن ما يمكن تقديمه.
استثمر الشيخ هذا الرصيد الأخلاقي بذكاء. فعندما اجتمع شيوخ العقيدات، وعلى رأسهم عبود الجدعان الهفل، لمناقشة كيفية رد هذا الجميل العظيم، كان القرار بالإجماع: إن الرجل الذي أنقذ ابننا يستحق أن نُسقط ديون الدم القديمة إكراماً له. أعلنوا العفو عن الثأر، ليس تنازلاً أو ضعفاً، بل وفاءً بالجميل وعرفاناً بالنبل.5
ولترسيخ هذه المصالحة، دعا الشيخ عبد العزيز شيوخ القبيلتين إلى وليمة كبرى في مضيفه. هذه الوليمة لم تكن مجرد طعام، بل كانت إعلاناً رسمياً ومجتمعياً بانتهاء العداوة وبدء عهد جديد من السلام. لقد حوّل محنة رجل واحد إلى مناسبة للم الشمل وإطفاء نار الفتنة. هنا يكمن الفارق بين الزعيم التقليدي والقائد صاحب الرؤية. فالأول قد يكتفي بفعل النخوة، لكن الثاني يرى فيه فرصة لمعالجة جذور الصراع وبناء مستقبل أفضل لمجتمعه. لقد استخدم قوته الأخلاقية، لا العسكرية، لحقن الدماء وتوحيد الصفوف.
الفعل | النتيجة المباشرة | الأثر الاجتماعي والسياسي الأوسع |
الاستجابة للقصيدة والقسم العلني | إنقاذ حياة سجين واحد من قبيلة العقيدات. | ترسيخ هوية الشيخ كـ “زبن الونيه”، ملاذ للجميع بغض النظر عن الانتماء القبلي. |
التدخل الشخصي لدى سلطات الدولة | وضع قبيلة العقيدات تحت دين شرف وعرفان كبيرين. | إظهار قدرة السلطة القبلية وقوانين الشرف على التفاعل مع هياكل الدولة الحديثة والتأثير فيها. |
استثمار الموقف للدعوة إلى المصالحة | إسقاط قبيلة العقيدات لثأر دموي قديم وفاءً للجميل. | كسر حلقة الانتقام، وتحقيق سلام أهلي، وتحويل علاقة العداء إلى علاقة احترام وتحالف. |
1.4. نخوة بلا حدود: من المحلية إلى القومية
لم تكن نخوة الشيخ عبد العزيز محصورة في نطاقه الجغرافي أو القبلي، بل كانت تعبيراً عن انتمائه القومي العربي الأوسع. فالمبدأ الذي دفعه لنجدة السجين العكيدي هو نفسه الذي دفعه لدعم القضايا العربية الكبرى. كانت سيرته حافلة بالمواقف التي تؤكد أن مروءته لم تكن مجرد عادة بدوية، بل كانت جزءاً من وعي قومي عميق.
تُظهر السجلات التاريخية أنه كان من أوائل من أرسلوا المتطوعين من أبناء قبيلته للمشاركة في حرب فلسطين عام 1948، إيماناً منه بواجبه تجاه قضية العرب المركزية.3 ولم يتوقف دعمه عند هذا الحد، فعندما اندلعت الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، لم يتردد في تقديم دعم مادي وعسكري كبير، حيث تبرع للثوار بشاحنتي سلاح وعتاد ومبلغ مئة ألف ليرة سورية، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت.3 وعندما قامت ثورة الشواف في الموصل عام 1959، فتح بيوته وأرضه لاستقبال اللاجئين العراقيين، وقدم لهم المال والكساء والمأوى.3 هذه المواقف تضع نخوته في سياقها الصحيح: لقد كان يرى في كل ملهوف عربي، سواء في فلسطين أو الجزائر أو العراق، شخصاً يستحق النجدة، تماماً كما رأى في السجين العكيدي.
الفصل الثاني: كرامة الأمراء: درس في عزة النفس
قد يظن البعض أن مكانة الشيخ عبد العزيز وسلالته الأميرية جعلته يعيش حياة من الترف والراحة بعيداً عن مشقة الكد، لكن قصصه، خاصة في الفترات الصعبة من حياته، ترسم صورة مغايرة تماماً. لقد كان يجسد نموذجاً فريداً للقيادة، حيث لم تكن كرامته مستمدة من نسبه أو ثروته، بل من اعتماده على ذاته ورفضه القاطع للمنّة، حتى في أحلك الظروف.
2.1. الأمير الذي حرث أرضه: سنوات المنفى في العراق
تتجلى هذه السمة بأوضح صورها خلال فترة إقامته في العراق بعد انقلاب الانفصال في سوريا عام 1961، الذي أطاح بالوحدة مع مصر التي كان من أشد مؤيديها.3 اضطر الشيخ لمغادرة وطنه ولجأ إلى العراق، حيث استُقبل بحفاوة بالغة من قبل الدولة العراقية وأبناء قبيلته المنتشرين هناك.3 كان بإمكانه أن يعيش حياة هانئة، معتمداً على المساعدات التي عُرضت عليه بسخاء من الحكومة العراقية ومن أثرياء قبيلة الجبور.
لكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً. فبدلاً من قبول العطايا، طلب تخصيص قطعة أرض له. وكما تروي المصادر، كان الشيخ يذهب بنفسه كل يوم إلى هذه الأرض، فيحرثها ويزيل أدغالها بيديه. كان يعود في آخر النهار وجسده منهك وثيابه ممزقة، وقد تركت لدغات البعوض علاماتها على جلده، لكن روحه كانت مرفوعة، لأنه كان يأكل من كد يمينه وعرق جبينه.3 في هذا المشهد، نرى أميراً حقيقياً، ليس بنسبه، بل بتواضعه وعمله. لقد قدم درساً بليغاً في أن الكرامة الحقيقية تنبع من الاعتماد على الذات، لا على عطايا الآخرين. لم يكن هذا كبرياءً فارغاً، بل كان تجسيداً لعزة نفس لا تقبل أن تكون عالة على أحد، حتى لو كان من أقرب الناس إليه.
2.2. نمط متسق من النزاهة: المبدأ فوق المنفعة والكبرياء
لم يكن سلوك الشيخ في العراق موقفاً استثنائياً فرضته ظروف المنفى، بل كان امتداداً طبيعياً لفلسفة حياة طبقها في كل مراحل حياته. تكشف مواقفه الأخرى عن نمط ثابت من السلوك يضع فيه المبدأ فوق المنفعة الشخصية، والكرامة الوطنية فوق الإغراءات.
الحالة الأولى: قانون الإصلاح الزراعي (1958-1959): خلال فترة الوحدة المصرية السورية، كان الشيخ عبد العزيز يملك أراضي شاسعة تُقدر بنحو نصف مليون دونم.16 ونظراً لعلاقته الوثيقة بالرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يكنّ له محبة واحتراماً كبيرين 3، نصحه عبد الناصر شخصياً بأن يبيع أراضيه قبل صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي سيؤمم معظمها ويوزعها على الفلاحين. كانت هذه فرصة ذهبية لتجنب خسارة مالية فادحة، وهي نصيحة من أعلى سلطة في الدولة. لكن الشيخ رفض ذلك الأمر. لقد رأى أن استخدام علاقته بالرئيس للتحايل على قانون سيُطبق على الجميع هو أمر يخلّ بنزاهته ومبادئه. فضّل الخضوع لقانون بلاده على تحقيق مكسب شخصي، فصدر القرار وصودرت أراضيه ولم يتبق له سوى بضع مئات من الدونمات.16 هذا الموقف يكشف أن قيمة نفسه لم تكن مرتبطة بثروته، بل بنزاهته واحترامه للقانون.
الحالة الثانية: الجنرال الفرنسي: في فترة الاستعمار الفرنسي لسوريا، كان الشيخ معروفاً بموقفه الوطني الصلب ورفضه التعامل مع المحتلين.3 تروي إحدى القصص الشهيرة أن الجنرال الفرنسي مونبلييه، المعروف بقسوته، زاره في مضيفه. فاجأ الشيخ ضيفه المستعمر بتقديم وجبة متواضعة للغاية تتكون من خبز الشعير واللبن والتمر. وعندما عاتبه الجنرال على هذا التقشف، كان رد الشيخ حاسماً ولاذعاً: “وهل تركت ضرائبكم وجباياتكم لنا شيئاً؟ حتى أغنامنا وإبلنا هربت إلى الصحراء من ظلمكم وجوركم”. لم يكن هذا مجرد رد، بل كان بياناً سياسياً وإعلاناً بالرفض. وفي اليوم التالي، أرسل الجنرال عدة شاحنات محملة بالقمح كـ “هدية” للشيخ، فرفضها قائلاً: “إنك لم تأتِ بها من فرنسا، بل هي من أرض آبائي وأجدادي”.3 هذا الموقف يظهر أن عزة نفسه كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بكرامة وطنه، ورفضه للمنّة امتد ليشمل رفض أي شكل من أشكال الرعاية أو المحاباة من قبل قوة محتلة.
عند وضع هذه المواقف الثلاثة جنباً إلى جنب—الأمير الذي يحرث أرضه في العراق، ومالك الأرض الذي يخضع لقانون بلاده في سوريا، والشيخ الذي يتحدى المحتل في مضيفه—تظهر صورة متكاملة لرجل كانت كرامته هي أثمن ممتلكاته، وهي قيمة لم يكن مستعداً للمساومة عليها مقابل الراحة أو الثروة أو حتى السلامة الشخصية.
الفصل الثالث: قلب عامر بالإيمان: البوصلة الأخلاقية الثابتة
لم تكن كل هذه الأخلاق النبيلة من نخوة ومروءة وعزة نفس مجرد عادات اجتماعية أو قيم قبلية متوارثة، بل كانت انعكاساً لقلب عامر بإيمان صادق وعميق بالله. كان تدين الشيخ عبد العزيز هو الأساس الذي قامت عليه منظومته الأخلاقية بأكملها، والبوصلة التي وجهت قراراته، ومصدر السكينة والشجاعة في قلبه.
3.1. التقوى كأساس للحياة
عُرف عن الشيخ عبد العزيز التزامه الديني الذي لا يفتر. لم تكن عبادته موسمية أو مرتبطة بالمناسبات، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من روتينه اليومي. تذكر المصادر أنه كان “متديناً لا يفوته فرض من فرائض الدين”.3 كان وقت الصلاة مقدساً عنده، وكان يؤديها في وقتها تماماً حتى لو كان في خضم اجتماع حاشد أو في قلب مناسبة كبرى. هذا الالتزام الدقيق يوضح أن علاقته بالله كانت تحتل الأولوية المطلقة على كل شؤون الدنيا. لم يكن إيمانه مجرد قناعة فكرية، بل كان ممارسة يومية تشكل سلوكه وتضبط إيقاع حياته. هذه التقوى العملية هي التي غذّت قيمه الأخرى؛ فالعدل الذي مارسه، والرحمة التي أظهرها، والتواضع الذي تحلى به، كلها تنبع من إحساس عميق بالمسؤولية أمام خالقه.
3.2. الإيمان مصدر الشجاعة
إن العلاقة بين إيمان الشيخ العميق وشجاعته الأسطورية هي علاقة سببية مباشرة. فالرجل الذي تكون مسؤوليته النهائية أمام الله وحده لا يمكن أن تخيفه سلطة بشرية زائلة. إن شجاعته في وجه الطغاة لم تكن تهوراً سياسياً، بل كانت تعبيراً عن يقين ديني راسخ.
يتجلى هذا بوضوح في مواجهته الشهيرة مع حسني الزعيم، الحاكم العسكري لسوريا عام 1949. عُرف الزعيم بلسانه السليط ومحاولاته المستمرة لإهانة من حوله لفرض هيبته. في اجتماع دعا إليه وجهاء وشيوخ القبائل السورية، بدأ الزعيم بالصراخ والتهديد، محاولاً كسر شوكتهم وإذلالهم.3 وبينما صمت الآخرون خوفاً أو حكمة، لم يستطع الشيخ عبد العزيز، الذي رأى في هذا السلوك إهانة لكرامة الرجال التي منحها الله لهم، أن يسكت.
في لحظة تحدٍ تاريخية، نهض الشيخ وأمسك بأحد الكراسي وتقدم نحو رئيس الدولة ليضربه به، في فعل كان بمثابة حكم إعدام ذاتي.3 على الفور، تم تقييده والحكم عليه بالإعدام. لكن في تطور دراماتيكي للأحداث، والذي قد يراه البعض تدخلاً إلهياً، سقط نظام حسني الزعيم بانقلاب عسكري قبل أن يتم تنفيذ الحكم، وأُطلق سراح الشيخ.3
هذا الموقف لا يمكن تفسيره إلا من خلال منظور إيماني. لم يكن دافع الشيخ حسابات القوة، بل كان دافعه إيمانه بأن الكرامة هبة من الله، ولا يحق لأي حاكم، مهما بلغت قوته، أن يسلبها. إن شجاعته لم تكن غياب الخوف، بل كانت إعادة ترتيب لأولوياته: كان خوفه من الله أعظم بكثير من خوفه من أي طاغية أرضي. وبهذا المعنى، كان إيمانه هو الدرع الحقيقي الذي تسلح به، وهو المصدر الذي منحه القوة ليقف وحيداً في وجه الظلم عندما صمت الآخرون.
الخاتمة: الإرث الخالد: بصمة أخلاقية في ذاكرة الأجيال
في نهاية المطاف، إن سيرة الشيخ عبد العزيز المسلط الإنسانية هي شهادة حية على أن عظمة الرجال الحقيقية لا تُقاس بحجم المناصب التي شغلوها أو الثروات التي جمعوها، بل بعمق الأثر الذي تركوه في قلوب الناس، وبالمبادئ التي عاشوا من أجلها. لقد كانت حياته تجسيداً متكاملاً لفلسفة أخلاقية متماسكة، قامت على ثلاثة أعمدة مترابطة: النخوة، وعزة النفس، والإيمان.
كانت نخوته، التي تبلورت في لقب “زبن الونيه”، تعبيراً عن مسؤوليته تجاه الضعفاء، وهي مسؤولية لم تكن تعرف حدوداً قبلية أو جغرافية. وكانت عزة نفسه درساً في الكرامة، حيث أثبت بأفعاله أن الشرف الحقيقي يكمن في العمل والاعتماد على الذات، لا في النسب أو العطايا. أما إيمانه، فكان النبع الذي فاضت منه كل هذه الفضائل، وهو الذي منحه الشجاعة ليواجه الطغيان والسكينة ليتحمل الشدائد.
إن إرث الشيخ عبد العزيز ليس مجرد قصص تُروى في المجالس، بل هو مدرسة في القيم لا تزال تلهم الأجيال. ويتجلى هذا الإرث اليوم في استمرار ذكر مبادئه كمرجعية أخلاقية داخل قبيلته والمجتمع الأوسع.17 لقد أثبت أن القيادة الأكثر تأثيراً هي القيادة الأخلاقية، وأن القوة الحقيقية لا تكمن في فرض السلطة، بل في خدمة الناس وجبر كسرهم وحماية كرامتهم. وهكذا، تبقى سيرة الشيخ عبد العزيز المسلط، الإنسان، منارة تضيء معنى النبل والمروءة، وتؤكد أن البصمة الخالدة التي لا يمحوها الزمن هي تلك التي تُحفر في القلوب، لا في سجلات التاريخ الرسمية.
قبيلة الجبور: عمود التاريخ وركن الأصالة في النسيج العربي
عندما يُذكر تاريخ القبائل العربية، يبرز اسم “الجبور” ليس كقبيلة عادية، بل كظاهرة اجتماعية وسياسية ضاربة في عمق التاريخ، وأحد أهم وأكبر أركان الخارطة القبلية في المشرق العربي. إن مكانة الجبور لا تُقاس بكثرة العدد فحسب، بل بالإرث الحضاري والسياسي الذي حملته عبر القرون.
جذور تمتد إلى فجر التاريخ العربي
تمتد جذور قبيلة الجبور عميقاً في التاريخ، حيث يعود نسبها إلى قبائل قحطان العريقة، وتحديداً إلى حلف قبائل زبيد الكبير.1 ويرتبط اسمها بشكل مباشر بجدها الأعلى، السلطان جبر بن مكتوم، الذي لم يكن لقبه “سلطان” تشريفياً، بل دلالة على زعامته لائتلاف واسع من العشائر.2 كما تفخر القبيلة بصلتها بالفارس والصحابي الأسطوري عمرو بن معديكرب الزبيدي، مما يرسخ إرثها في الشجاعة والفروسية.6
أكثر من مجرد قبيلة: كيان سياسي وتاريخي
يتجاوز تكوين الجبور مفهوم القبيلة التقليدية ليصبح أقرب إلى “مجموعة قبائل” أو حلف ضخم.2 فبطونها الكبرى مثل الهياجل والبو نجاد وغيرهم، تُعتبر قبائل بحد ذاتها نظراً لضخامتها وتفرعاتها.2
والدليل الأبرز على مكانتها التاريخية هو تأسيسها لـ “الدولة الجبرية” التي حكمت أجزاء واسعة من شرق شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك الأحساء والبحرين وأجزاء من نجد.7 وقد اشتهر حكامها بالعدل وخاضوا معارك ضارية ضد القوى الأجنبية، مما يثبت قدرتهم على التنظيم السياسي والحكم وإدارة الدولة.7
انتشار واسع وتأثير راسخ
تنتشر قبيلة الجبور على مساحة جغرافية شاسعة تمتد من العراق، حيث تعد من أكبر القبائل عدداً، إلى سوريا حيث لها ثقل سياسي واجتماعي كبير، بالإضافة إلى وجودها في دول الخليج العربي والأردن وتركيا.4 هذا الانتشار الواسع جعلها لاعباً أساسياً في تاريخ المنطقة، حيث شاركت بفعالية في الأحداث الكبرى، بدءاً من مقاومة الاحتلال وصولاً إلى المشاركة في بناء الدول الحديثة، وكان لأبنائها دور بارز في البرلمانات والمجالس الوطنية.9
في الختام، لا يمكن قراءة تاريخ المشرق العربي دون التوقف عند الدور المحوري الذي لعبته قبيلة الجبور. فهي ليست مجرد مجموعة من العشائر، بل هي كيان تاريخي عريق، له دولته وأمراؤه وتاريخه السياسي، مما يجعلها بحق ركناً أساسياً من أركان القبائل العربية وأحد أعمدة الأصالة والتاريخ في المنطقة.
بيت الملحم: سلالة القيادة
تتركز زعامة قبيلة الجبور في بيت الملحم، وهي الأسرة التي ورثت الإمارة منذ القرن الثامن عشر يمكن تتبع خط الزعامة مباشرة إلى أسلاف الشيخ عبد العزيز، وتحديداً جده صالح الملحم، ووالده الشيخ الشهير مسلط باشا الملحم.2 لقد كان عهد مسلط باشا (توفي 1931/1932) مرحلة مفصلية، حيث قاد القبيلة خلال فترة الانتقال من الحكم العثماني إلى الانتداب الفرنسي، مرسخاً نفوذها في منطقة الجزيرة السورية 11، وهو ما شكل الإرث السياسي والاجتماعي المباشر الذي تسلمه ابنه.
أمير قيد التكوين (1911–1932)
وُلد الشيخ عبد العزيز عام 1911 في قلب الجزيرة الفراتية، على تخوم الحدود السورية-العراقية التي كانت تمثل مجال نفوذ قبيلته. وتكمن أهمية نسبه في أنه جمع بين خطين قويين: فوالده هو شيخ مشايخ جبور سوريا، ووالدته هي الشيخة ترفة العبد ربه، التي تنحدر من إحدى الأسر القيادية في جبور العراق. هذا الزواج بحد ذاته كان رمزاً للطبيعة العابرة للحدود للقبيلة.
تصف الروايات شبابه بصورة حية، فهو “منذ صغره يتصرف كالأمراء”، عُرف بالحكمة والتدين والشجاعة. والأهم من ذلك، أنه كان “فارساً بكل معنى الكلمة، إذ كان يقود شباب الجبور على ظهر فرسه في الغزوات لم تكن نشأته مجرد تربية سلبية، بل كانت تدريباً عملياً ومكثفاً على فنون القيادة والحرب القبلية. لقد تشكلت شخصيته من خلال توليفة فريدة من الروافد: الإرث شبه الأسطوري لقحطان وعمرو بن معديكرب، والإرث السياسي للدولة الجبرية والسلطان جبر، وسلالة القيادة المباشرة لآل الملحم ومسلط باشا، والتدريب العملي كفارس صحراوي. لم يكن هذا مجرد نسب، بل كان تعليماً ثقافياً وسياسياً متكاملاً. إن ثقته بنفسه لاحقاً في مواجهة رؤساء الدول لم تكن غطرسة، بل كانت السلوك الطبيعي لرجل يجسد هذا الخط العميق وغير المنقطع من السيادة.
الجزء الثاني: الشيخ رجل الدولة – الإبحار في خضم سوريا الجديدة
مواجهة الانتداب: درس في الكبرياء
اتخذ الشيخ عبد العزيز موقفاً صلباً مناهضاً للاستعمار، حيث “كان يحتقرهم ولا يتعامل معهم” مما ميزه عن غيره من الأعيان الذين ربما اختاروا طريق المهادنة. وتتجلى هذه الروح في الحادثة الشهيرة مع الجنرال الفرنسي مونبليه، المعروف بقسوته. فبدلاً من الوليمة الفاخرة التي توقعها الجنرال، لم يقدم له الشيخ سوى خبز الشعير واللبن والتمر. وكان تفسيره بمثابة عمل مسرحي سياسي بارع، إذ قال: “وهل تركت ضرائبكم وجباياتكم لنا شيئاً؟” وكان عنده القدرة يطعم كامل الجيش و لقد أحرج السلطة الاستعمارية بواقع استغلالها الصارخ. وعندما حاول الجنرال تدارك الموقف بإرسال “هدية” من القمح، جاء رفض الشيخ قاطعاً وحاسماً، معلناً أن هذا القمح هو من أرض آبائه وأجداده، مما رسخ صورته كصاحب كرامة لا تلين.
أسد البرلمان: من المجلس القبلي إلى الجمعية الوطنية
مع بزوغ فجر الدولة السورية المستقلة، دخل الشيخ عبد العزيز ساحة السياسة الرسمية، لكن بشروطه. انتُخب نائباً عن قضاء الحسكة عام 1947، وخدم في الجمعية التأسيسية عام 1949، وأعيد انتخابه عام 1954، ثم أصبح عضواً في مجلس الأمة إبان الوحدة مع مصر (1960-1961). ولم يكتفِ بذلك، بل انتُخب زعيماً لكتلة نواب الجزيرة
تمثل مسيرته السياسية ازدواجية فريدة، فقد كان في آن واحد الزعيم الوراثي ذو الكاريزما لحلف قبلي هائل، والنائب المنتخب في برلمان حديث على الطراز الغربي. لم يكن مجرد نائب آخر، بل كان أميراً يأتمر بأمره عشرات الآلاف. هذه السلطة المزدوجة منحته نفوذاً استثنائياً، حيث استمد قوته في البرلمان مباشرة من قاعدته القبلية. لقد مكنته هذه المكانة من بناء جسر بين مجتمع الجزيرة التقليدي والحكومة المركزية في دمشق، ليعمل كوسيط قوة وحارس لمصالح شعبه داخل هيكل الدولة الجديد.
اختبار العزيمة: المواجهة مع حسني الزعيم (1949)
في عام 1949، شهدت سوريا أول انقلاب عسكري بقيادة حسني الزعيم 15، الذي وُصف بأنه ديكتاتور “سليط اللسان” سعى إلى إذلال الزعامات التقليدية وتعتبر حادثة اجتماعه بشيوخ العشائر لحظة فارقة في سيرة الشيخ عبد العزيز. بدأت المواجهة بخطاب مهين ألقاه الزعيم، أعلن فيه أنه “ليس أمامه كبير إلا الجمل”، مما بث الرعب في قلوب الشيوخ الحاضرين.
في تلك اللحظة الحرجة، وبينما نكّس الآخرون رؤوسهم خوفاً، تجلت شجاعة الشيخ عبد العزيز الاستثنائية. فبعد أن رأى أن اتفاقهم المسبق على قتل الزعيم إن أهانهم قد تبخر، لم يتردد. انتفض وحده، وأمسك بأحد الكراسي وتقدم نحو رئيس الدولة بنية ضربه. لم يكن هذا تصرفاً متهوراً، بل كان قراراً واعياً بالدفاع عن الشرف الجماعي لمشايخ العرب، حتى لو كان الثمن حياته.
كانت العواقب وخيمة: قُبض عليه، وحُكم عليه بالإعدام. ولكن في مفارقة تاريخية، نجا بأعجوبة عندما أُطيح بحسني الزعيم نفسه في انقلاب آخر قبل ساعات من تنفيذ الحكم. هذه الحادثة لم تخلده كبطل شجاع فحسب، بل أثبتت استعداده لمواجهة أعتى السلطات الزمنية دفاعاً عن المبادئ الخالدة. هذا هو المسلط
الجزء الثالث: قلب العروبة – رؤية تتجاوز الحدود
3.1 الرابط مع عبد الناصر وحلم الوحدة
كان لقاؤه الأول بالرئيس جمال عبد الناصر عام 1958 تجسيداً للقاء الند للند. فبينما انحنى سائر الشيوخ أمام رمز القومية العربية الشاهق، “بقي الشيخ عبد العزيز ثابت الجنان بقامته المديدة ولم ينحنِ”. أدرك عبد الناصر أنه أمام رجل من طينته، فما كان منه إلا أن ضمه إلى صدره وعينه رئيساً للجنة التنفيذية للاتحاد القومي
وقد تعمق هذا الاحترام المتبادل في حوارهما الشهير حول الأنساب. فعندما سأله عبد الناصر عن قبيلته، أجاب الشيخ بفخر أنه من الجبور القحطانية، من أحفاد السلطان جبر وعمرو بن معديكرب. ثم، في جرأة لافتة، قلب السؤال على الرئيس، الذي أجاب بأنه من قبيلة بني مرة. فجاء رد الشيخ الفوري والواثق: “أنت عربي أصيل، وخالك جساس بن مرة”، مما أثار إعجاب عبد الناصر وضحكه، وأسس لعلاقة متينة مبنية على التقدير المتبادل للأصالة العربية.2
3.2 نصير القضايا العربية: سياسة قائمة على “النجدة”
لم تكن رؤية الشيخ عبد العزيز القومية مجرد شعارات، بل كانت سياسة عملية قائمة على الفعل. وتجلت هذه السياسة في مواقف حاسمة:
- حرب فلسطين 1948: كان من أوائل من أرسلوا المتطوعين وحثوا شباب الجبور على القتال، مما يظهر التزاماً مبكراً بالقضية العربية المركزية.2
- الثورة الجزائرية (1954-1962): قدم دعماً مادياً وعسكرياً هائلاً للنضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، حيث تبرع “بشاحنتي سلاح وعتاد ومائة ألف ليرة سورية”، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت.2 لم يكن هذا دعماً رمزياً، بل كان تدخلاً مباشراً في معركة عربية شقيقة.
- ثورة الشواف (1959): ساند الانتفاضة القومية في الموصل بالعراق، وقدم “المال والكساء للاجئين” بالقرب من الحدود السورية-العراقية.2
إن هذه المواقف المتسقة تكشف عن منطق أعمق من السياسة الخارجية الرسمية للدولة السورية. لقد كانت أفعاله مدفوعة بقانون الشرف القبلي وقيمة “النجدة” العربية الأصيلة. بالنسبة له، كانت “الأمة العربية” هي القبيلة الكبرى، وكانت فلسطين والجزائر والموصل أطرافاً من هذه القبيلة تستدعي نصرته. وهكذا، لم تكن قوميته العربية أيديولوجية حديثة مكتسبة، بل كانت تعبيراً فطرياً وحياً عن هويته كشيخ عربي كبير.
الجزء الرابع: الرجل خلف اللقب – مجمع الفضائل النبيلة
4.1 كرم لا يعرف الحدود
تجاوزت شهرة كرمه حدود العالم العربي “حتى وصلت إلى أوروبا وأمريكا وبلاد آسيا” . وبينما تفتقر المصادر إلى تفاصيل محددة عن هذا الكرم العابر للقارات، فإن هذه السمعة تشكل جزءاً لا يتجزأ من أسطورته، كشيخ عظيم كانت مضيفه0 لا تعرف حداً.
لكن القصة التي تجسد جوهر نزاهته أكثر من أي كرم مادي هي موقفه من قانون الإصلاح الزراعي عام 1958. يروى أن الرئيس عبد الناصر نفسه نصحه سراً ببيع أراضيه الشاسعة (قرابة نصف مليون دونم) قبل صدور القانون الذي سيصادرها. لكن الشيخ رفض استغلال هذه المعلومة الداخلية، معتبراً ذلك خرقاً للمبدأ.10 لقد قبل بقانون الدولة التي يخدمها، ونتيجة لذلك، صودرت أراضيه ولم يتبق له سوى بضع مئات من الدونمات. هذا الموقف وحده يكفي ليكون شهادة خالدة على شخصيته، حيث وضع المبدأ فوق ثروة طائلة.
4.2 نسيج من العلاقات: المصاهرة والملوكية
امتدت شبكة علاقات الشيخ عبد العزيز لتشمل قمة هرم السلطة في العالم العربي، حيث ربطته صداقات بملوك العرب، خاصة ملوك المملكة العربية السعودية خالد وفهد وعبد الله.14
لكن العلاقة الأهم كانت مصاهرته للملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث كانا “عديلين”، إذ تزوجا من شقيقتين من بنات أحد شيوخ آل شعلان.14 وآل شعلان هم البيت الأميري لقبيلة الرولة القوية، إحدى كبريات قبائل حلف عنزة.19 هذا الرابط العائلي لم يكن مجرد علاقة اجتماعية، بل كان تحالفاً استراتيجياً وضعه في الدائرة المقربة من الأسرة الحاكمة في السعودية، مما منحه مكانة عابرة للحدود.
يوضح الجدول التالي شبكة علاقاته المعقدة، مبيناً اتساع نفوذه وديناميكيات تفاعلاته المختلفة، والتي تشكل جوهر حياته السياسية.
الشخصية | سياق العلاقة | الحدث/التفاعل الرئيسي | الأهمية |
جمال عبد الناصر | احترام متبادل / حليف سياسي | رفض الانحناء؛ حوار حول الأنساب؛ التحذير بشأن الإصلاح الزراعي. | جسّد العلاقة بين الزعامة القبلية الأصيلة والقيادة القومية الحديثة، المبنية على تقدير القوة والأصالة العربية. |
حسني الزعيم | خصومة / دفاع عن الشرف | المواجهة بسبب إهانة الشيوخ؛ الحكم بالإعدام. | حددت أسطورته كرمز للشجاعة ودوره كمدافع عن الكرامة العربية التقليدية في وجه الديكتاتورية العسكرية. |
الملك عبد الله بن عبد العزيز | قرابة (مصاهرة) / تحالف استراتيجي | تزوجا من شقيقتين من آل شعلان، وأصبحا عديلين. | رفعت مكانته إلى مستوى عابر للحدود، وربطت زعامة جبور سوريا مباشرة بالأسرة المالكة في السعودية. |
حافظ الأسد | رد اعتبار / اعتراف من الدولة | أصدر مرسوماً جمهورياً بعودته المشرفة من المنفى. | مثّل اعتراف الدولة الرسمي بأهميته وتصحيحاً للظلم الذي لحق به جراء نفيه. |
السلطات الفرنسية | تحدٍ للاستعمار | حادثة “خبز الشعير” مع الجنرال مونبليه. | أظهرت استخدامه للمقاومة الرمزية واعتزازه الراسخ في مواجهة القوة الاستعمارية. |
4.3 جوهر التواضع والإيمان
على الرغم من مكانته الرفيعة، كان الشيخ عبد العزيز رجلاً عميق التدين، “لم يكن يفوته فرض من فرائض الدين”، وكان يؤدي صلاته حتى لو كان في وسط حشد جماهيري [User Query]. ورغم هيبته وقامته الشاهقة ونسبه الأميري، فقد عُرف بأنه “أسطورة التواضع” [User Query]. وهنا يكمن جوهر شخصيته: رجل قوي لا يحتاج إلى التباهي بقوته، وزعيم كانت سلطته راسخة لدرجة أنه لم يكن بحاجة إلى الغرور.
خاتمة: إرث كالبصمة – فريد لا يتكرر
تختصر حياة الشيخ عبد العزيز المسلط رحلة ملحمية، من فارس شاب في بوادي الجزيرة إلى رجل دولة، وبطل قومي، وبوصلة أخلاقية في زمنه. لقد ترك بصمات واضحة في كل محطة من محطات حياته: وقفته ضد حسني الزعيم، وصداقته مع عبد الناصر، وتضحيته بأرضه من أجل المبدأ، ودعمه لحركات التحرر العربية.
إن الإرث الذي خلفه لا يكمن فقط في ما فعله، بل في ما كان يمثله. لقد قدم نموذجاً أصيلاً للقيادة العربية التي نجحت في دمج فروسية الماضي مع تحديات الحاضر. كان شيخاً يفهم لغة القبيلة والدولة، ولغة السيف والبرلمان على حد سواء.
وفي عصر تتغير فيه الهويات وتُساوم فيه القيم، تبقى سيرة الشيخ عبد العزيز المسلط علامة واضحة لا تُمحى، شهادة على القوة الخالدة للشجاعة والنزاهة والالتزام الراسخ بشرف قومه وأمته. لقد كان، كما شهد معاصروه، تاريخاً بحد ذاته [User Query]. امتدت حياته من ولادته عام 1911 إلى وفاته عام 1999 10، لتشمل قرناً كاملاً من الاضطرابات، قرناً لم يكن مجرد شاهد عليه، بل كان أحد صانعيه الفاعلين. وكما قيل في وصفه، يبقى “مثل البصمة، لا يتكرر أبداً”.