الشيخ عبد الغني حسين
إرث من الكرم ينسج في نسيج المدينة المنورة
بقلم: ناصر السلمان
الكرم بوصفه هندسة مجتمعية
في جوهر الكرم الحقيقي، تكمن فلسفة تتجاوز حدود العطاء المادي اللحظي؛ إنه فعل من أفعال “الهندسة المجتمعية” العميقة، أي البناء المنهجي والمدروس لمجتمعات مرنة ومستنيرة ومتماسكة. وفي هذا السياق، يبرز اسم الشيخ عبد الغني حسين كأحد أبرز مهندسي هذه الفلسفة في العصر الحديث. فمسيرته الحافلة في مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقدم نموذجاً حياً لرجل أعمال لم يكن نجاحه التجاري غاية في حد ذاته، بل كان وقوداً لرسالة أسمى تتمثل في خدمة المجتمع وتنميته.1 إن هذا المقال يسعى إلى إثبات أن نموذج العطاء لدى الشيخ عبد الغني حسين يتميز بعمقه الاستراتيجي، وتركيزه المؤسسي، وتكامله الوثيق مع الهوية الروحية والثقافية للمدينة المنورة، مما يجعل من إرثه منارة تضيء الدرب نحو كرم مستدام وشامل.
القسم الأول: فلسفة العطاء – رؤية تتجاوز الأرباح
لم تكن رحلة الشيخ عبد الغني حسين الخيرية وليدة ثروة موروثة، بل نتاج عصامية وكفاح وفهم عميق لاحتياجات مجتمعه. بدأت مسيرته المهنية بشكل متجذر في خدمة المدينة المنورة، حيث عُيّن في وظيفة مسّاح بالإدارة الهندسية في بلديتها مطلع عام 1383هـ.2 هذه الخبرة المبكرة منحته فهماً واقعياً للنسيج الاجتماعي للمدينة، وهو ما شكّل لاحقاً فلسفته في العطاء.
انطلاقاً من إدراكه المبكر بأن الاستثمار الحقيقي والأكثر ديمومة هو الاستثمار في الإنسان، وتحديداً في التعليم 2، سخّر الشيخ عبد الغني نجاحه في عالم الأعمال ليكون محركاً أساسياً ومستداماً لخدمة المجتمع. لم تكن أعماله التجارية غاية في حد ذاتها، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية شاملة لتنمية المجتمع، حيث وظّف خبراته لتعظيم أثر مبادراته الخيرية. يتجلى ذلك بوضوح في تركيزه على قطاعي التعليم والصحة، فدعمه لمستشفى الملك فيصل التخصصي 4 وتقديمه لخصومات دراسية في مدارسه للفئات المحتاجة 5، يوضح كيف تحولت أعماله إلى أداة فاعلة لتحقيق التكافل الاجتماعي.
وبهذا، فإن مسيرته المهنية تحمل دلالة رمزية عميقة. فقد بدأ كمسّاح يقيس أبعاد المدينة المادية 2، ثم تحول إلى بانٍ ومعماري يشكّل أبعادها الاجتماعية والتعليمية والروحية من خلال مؤسساته الخيرية ومشاريعه الإنسانية. هذا التحول من التخطيط العمراني إلى التخطيط المجتمعي الشامل يعكس كيف أن فهمه العميق لاحتياجات المدينة قد شكّل رؤيته الخيرية واسعة النطاق.
القسم الثاني: هندسة العمل الخيري – بناء مؤسسات ذات قيمة باقية
يمثل هذا القسم جوهر المقال، حيث يقدم تحليلاً شاملاً لعطائه المؤسسي، والذي يمكن فهمه من خلال محاور استراتيجية متكاملة.
المحور الأول: قلب المجتمع النابض – مجلس حي بئر عثمان
يُعد “مجلس حي بئر عثمان”، الذي أسسه الشيخ عبد الغني حسين عام 1425هـ، حجر الزاوية في عمله المجتمعي.6 لم يُصمم المجلس ليكون مجرد هيئة إدارية، بل ليكون مركزاً حيوياً يجسد روح المجتمع المديني الأصيل. تتمحور رسالته حول “زيادة التماسك الاجتماعي وبناء مجتمع حيوي” 6، وتعزيز قيم الجوار الحسنة، وتفعيل جهود إصلاح ذات البين لحل الخلافات بالتراضي.7 هذا النموذج يمثل إحياءً عصرياً لمفهوم المجلس الأهلي التقليدي في الإسلام، والذي يضع أهل الحي في مركز عملية التنمية الاجتماعية.
المجلس ليس مجرد مكتب جامد، بل هو منصة ديناميكية للحياة الاجتماعية والثقافية. فهو يستضيف ديوانيات ثقافية تجمع وجهاء المدينة ومثقفيها 10، وينظم ورش عمل وندوات تعالج قضايا مجتمعية وتنموية 8، ويكرّم الشخصيات المدينية المؤثرة التي خدمت المدينة في مجالات مختلفة كالتعليم 11، بل وينظم رحلات لأهالي الحي للتعرف على معالم مدينتهم وتاريخها.12 والأهم من ذلك، أن الشيخ عبد الغني ليس مجرد ممول بعيد، بل هو المؤسس والراعي الحاضر شخصياً في العديد من هذه الفعاليات 11، مما يؤكد التزامه الشخصي العميق بنجاح هذه المبادرة وتواصله المباشر مع أبناء مجتمعه.
المحور الثاني: رعاية العقول والأرواح – التزام بالتعليم والإيمان
إيماناً منه بأن بناء الإنسان هو أساس بناء الأمة، أولى الشيخ عبد الغني حسين اهتماماً خاصاً بالتعليم والمعرفة الدينية. وتتجلى هذه الرؤية في مبادرتين رئيسيتين:
- جائزة خدمة القرآن الكريم: تمثل “جائزة عبد الغني حسين لخدمة القرآن” 15 استثماراً استراتيجياً في الهوية الروحية للمجتمع. تهدف الجائزة إلى تكريم “أهل القرآن”، ودعم مشاريع تعليم وتحفيظ كتاب الله وعلومه من تجويد وتفسير.17 إن تأسيس هذه الجائزة كوقف دائم يضمن استمراريتها، ويجعلها منصة رائدة لنشر علوم القرآن وتعظيم مكانته في القلوب، وتشجيع الأجيال الناشئة على الاقتداء بحملة كتاب الله.17
- المكتبة الوقفية: تُعد “مكتبة الشيخ عبد الغني حسين الوقفية الشاملة” 15 مشروعاً معرفياً رائداً. تسعى المكتبة لتكون مرجعاً ثقافياً متكاملاً يستخدم أحدث التقنيات لتسهيل الوصول إلى المعلومة، مع اهتمام خاص بالتراث السعودي الأصيل.18 إنها ليست مجرد مستودع للكتب، بل هي استثمار في رأس المال الفكري للمدينة المنورة، تهدف إلى تشجيع القراءة والاستكشاف لدى كافة شرائح المجتمع.
- المؤسسات التعليمية كأداة للخير: لم يكتفِ الشيخ عبد الغني ببناء مؤسسات خيرية بحتة، بل سخّر بنيته التحتية التجارية لخدمة الأهداف الخيرية. وتُعد الشراكة المجتمعية بين مجموعة عبد الغني حسين و”جمعية رعاية الأرامل والمطلقات” مثالاً ساطعاً على هذا النهج، حيث تقدم مدارسه وكلياته (الريان) خصماً بنسبة 10% على الرسوم الدراسية لأبناء هذه الفئة.5 هذا النموذج يضمن وصول التعليم الجيد للفئات الأكثر حاجة، ويحول المؤسسة التجارية إلى أداة فاعلة في تحقيق التكافل الاجتماعي.
المحور الثالث: تمكين المجتمع – صحة وتراث وفرص اقتصادية
يمتد عطاء الشيخ عبد الغني حسين ليشمل تمكين المجتمع على كافة الأصعدة:
- دعم القطاع الصحي: تتجلى مساهماته في القطاع الصحي بشكل واضح في الدعم الذي قدمته “أوقاف عبد الغني حسين” لإنشاء وتجهيز عيادة طب الأسنان الجديدة في “مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث” بالمدينة المنورة، وهو صرح طبي مرموق.4 هذا الدعم لم يمر مرور الكرام، بل قوبل بتكريم رسمي من إدارة المستشفى، مما يعكس الأثر الكبير لهذه المساهمة في تعزيز الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين.4
- حفظ الإرث وتمكين المرأة: يأتي تأسيس “متحف سيرة ومسيرة عبد الغني حسين” 15 ليس كنوع من التكريم الذاتي، بل كأداة تعليمية تهدف إلى إلهام الأجيال القادمة من رواد الأعمال والعطاء، وتوثيق رحلة من الكفاح والنجاح. ويتكامل هذا المشروع مع “أكاديمية جميلة الحرفية للتطوير النسائي” 15، وهي مبادرة موجهة لتمكين المرأة من خلال التدريب المهني والحرفي، وتزويدها بالمهارات اللازمة لدخول سوق العمل والمساهمة في اقتصاد أسرتها ومجتمعها.
- تعزيز الاقتصاد المحلي: تُظهر مبادرة “صنع في المدينة” 15 بعداً وطنياً واقتصادياً في فكره الخيري. فهذه المبادرة لا تقتصر على تقديم المساعدات، بل تهدف إلى تحقيق تمكين اقتصادي مستدام من خلال تشجيع الصناعات المحلية، ودعم الحرفيين، وغرس الفخر بالمنتج المحلي. إنه انتقال من مفهوم “الصدقة” إلى مفهوم “التنمية” الذي يخلق فرص عمل ويحقق الاكتفاء الذاتي.
إن السمة الأبرز التي تجمع بين هذه المشاريع هي تأسيس العديد منها كنظام “الوقف” الإسلامي.19 الوقف هو تخصيص دائم للأصل على أن يُصرف ريعه في أوجه الخير. هذا الاختيار الاستراتيجي يكشف عن فهم عميق لمفهوم الاستدامة في العمل الخيري. فالشيخ عبد الغني لا يسعى فقط لحل مشاكل آنية، بل يبني مؤسسات قادرة على الاستمرار في خدمة المجتمع لأجيال قادمة، مما يضمن بقاء الأثر واستمرارية النفع. إنه يمزج بين فقه العصر في إدارة الأعمال وأصالة الفقه الإسلامي في العطاء، ليخلق نموذجاً هجيناً قوياً ومستداماً.
يمكن تلخيص هذه الشبكة المتكاملة من المبادرات في استراتيجية تنموية ثلاثية الأبعاد:
- بناء رأس المال الاجتماعي والروحي: من خلال مجلس الحي، وجائزة القرآن، والمكتبة، يتم تعزيز الثقة المجتمعية، وترسيخ القيم المشتركة، ونشر المعرفة.
- بناء رأس المال البشري: من خلال المدارس، وأكاديمية المرأة، ودعم القطاع الصحي، يتم الاستثمار المباشر في صحة الإنسان ومهاراته ومستقبله.
- بناء رأس المال الاقتصادي: من خلال مبادرة “صنع في المدينة” ودعم المشاريع المحلية، يتم خلق فرص للاكتفاء الذاتي والازدهار المستدام.
هذه الأبعاد الثلاثة تعمل كنظام بيئي متكامل، حيث يدعم كل محور المحاور الأخرى، مما يؤدي إلى نهضة مجتمعية شاملة.
| اسم المبادرة | القطاع | الهدف الأساسي | المصادر ذات الصلة |
| مجلس حي بئر عثمان | تنمية مجتمعية | تعزيز التماسك الاجتماعي، حل النزاعات، وخدمة أهالي الحي. | 6 |
| جائزة عبد الغني حسين لخدمة القرآن | ديني وتعليمي | تكريم ودعم تعليم وتحفيظ ودراسة القرآن الكريم. | [15, 17] |
| مكتبة عبد الغني حسين الوقفية | ثقافي ومعرفي | توفير مرجع ثقافي عصري وشامل للمجتمع. | [15, 18] |
| مدارس وكليات الريان (الشراكات المجتمعية) | تعليمي ورعاية اجتماعية | توفير تعليم نوعي وضمان وصول الفئات المحتاجة إليه عبر الخصومات. | [21, 5] |
| دعم مستشفى الملك فيصل التخصصي | رعاية صحية | تعزيز الخدمات الصحية العامة ودعم البنية التحتية الطبية الحيوية. | 4 |
| مبادرة “صنع في المدينة” | تنمية اقتصادية | تشجيع الصناعة المحلية والحرف اليدوية والاكتفاء الاقتصادي. | 15 |
| أكاديمية جميلة الحرفية | تمكين المرأة | توفير التدريب المهني والتطوير الاحترافي للمرأة. | 15 |
| أوقاف عبد الغني حسين | متعدد القطاعات | توفير آلية تمويل مستدامة وطويلة الأجل لمختلف المشاريع الخيرية. | [21, 19, 20] |
القسم الثالث: الرجل خلف الرسالة – الشخصية والقناعات وروح الكرم
لفهم عمق عطاء الشيخ عبد الغني حسين، لا بد من النظر إلى المبادئ التي تحركه. في أحد لقاءاته، يتحدث بوضوح عن إيمانه الراسخ، وعن نعمة الأمن والأمان التي تتمتع بها المملكة والتي تمكّن من الاستثمار والعطاء، وعن الدعوة الصادقة لـ “إعمار دولتنا المباركة”.1 كما أن الرؤية المعلنة لأوقافه، والتي تنطلق من “حب المدينة وأهلها” وتهدف إلى المزج بين العمل الخيري والمعرفي والثقافي 19، تكشف عن فلسفة متكاملة ترى في العطاء وسيلة للارتقاء بالإنسان والمجتمع على كافة الأصعدة.
ورغم أن الشهادات المباشرة حول “حسن الخلق” قد تكون متناثرة، إلا أن طبيعة أعماله ونبرة الاحترام في الكتابات عنه تشي بشخصية متواضعة ورفيعة. فإحدى الكتابات تصفه بأنه “رجل بار بوطنه”.22 لكن الدليل الأكثر واقعية على كرمه الشخصي وحسن ضيافته يتجلى في استضافته لديوانية آل رفيق الثقافية في منزله العامر.10 فالرواية تصف كيف كان الشيخ وأبناؤه في استقبال الجميع “مرحبين ومسرورين لحضورهم”، وكيف دعاهم إلى “مائدته العامرة”، وكيف غادر الضيوف وهم “مودعين بمثل ما استقبلوا به من حفاوة وترحيب”.10
هذا السلوك ليس مجرد كرم عابر، بل هو تجسيد حي لفلسفته. فضيافته الشخصية هي صورة مصغرة لعمله الخيري العام. فكما يفتح بيته ليخلق مساحة للحوار والتواصل وتقوية الروابط الاجتماعية، فإنه يؤسس مؤسسات عامة كـ “مجلس حي بئر عثمان” و”المكتبة الوقفية” لتكون بمثابة “بيوت مدنية” للمجتمع بأسره، تؤدي نفس الوظيفة على نطاق أوسع. هذا التطابق بين سلوكه الخاص ومشاريعه العامة يثبت أن الكرم والسخاء ليسا مجرد نشاط يمارسه، بل هما جزء أصيل من هويته وشخصيته.
إن حبه العميق للمدينة المنورة ليس مجرد ارتباط عاطفي، بل هو المبدأ المنظم لمسيرته بأكملها. فجلّ مشاريعه تتركز في المدينة 2، وحديثه عنها مشبع بالتقدير لمكانتها التاريخية والروحية.1 حتى تسمية مجلس الحي بـ “بئر عثمان” تحمل دلالة تاريخية وروحية عميقة، فهي تربط مبادرته المعاصرة بواحدة من أعظم قصص الوقف والصدقة الجارية في تاريخ الإسلام، والتي قام بها الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في المدينة ذاتها. هذا الربط الواعي يظهر أن الشيخ عبد الغني حسين يرى نفسه كأمين على هذا الإرث العظيم من الكرم والعطاء، وأن عمله ليس إلا إسهاماً متواضعاً في التعبير المعاصر عن “روح المدينة المنورة”.
القسم الرابع: إرث من الخدمة – الأثر الباقي لحياة من العطاء
في ختام هذه الرحلة، يتضح أن إسهامات الشيخ عبد الغني حسين تتجاوز بكثير مجرد قائمة من المشاريع الخيرية. إنه مهندس مجتمعي نجح في بناء منظومة متكاملة للتنمية المستدامة، ترتكز على ثلاثة أعمدة: رأس المال الاجتماعي والروحي، ورأس المال البشري، ورأس المال الاقتصادي. لقد أدى دوراً مزدوجاً فريداً، فهو فاعل اقتصادي ناجح وراعٍ مجتمعي مؤسس في آن واحد.
إن عضويته في مجلس منطقة المدينة المنورة لفترتين متتاليتين (1423هـ – 1431هـ) 2، والتكريمات التي حظي بها، كتكريم مستشفى الملك فيصل التخصصي 4، ليست سوى اعترافات رسمية بأثر عمله العميق والملموس.
إن الإرث الحقيقي للشيخ عبد الغني حسين لا يكمن في القيمة النقدية لتبرعاته، بل في المؤسسات الحية والنابضة التي أنشأها، وفي النسيج الاجتماعي المتين الذي ساهم في حياكته. تقدم مسيرته نموذجاً ملهماً لكيفية تسخير النجاح في عالم الأعمال لتحقيق خير اجتماعي عميق ومستدام. إنه رجل يجسد في حياته كيف يمكن للإيمان الراسخ، وحب الوطن، والرؤية الاستراتيجية أن تتضافر لتخلق إرثاً من الكرم سيستمر في رعاية المجتمع لأجيال قادمة، مما يرسخ مكانته بجدارة في سجلات الموسوعة العالمية للكرم.

